(الجبهة) أعضاء الجسم كلها معروفة ومحددة ومسماة حتى موضع الشعرة، والجبهة من المجابهة، والوجه من المواجهة، والقفى من التقفية، كل هذه عرفت من واقع الحال، والجبهة والجبين سواء، والجبهة مقدم الرأس، أو العضو الفاصل ما بين الوجه والرأس.
(وأشار بيده إلى أنفه) ، هنا البيان اشتمل على أسلوبين: أسلوب قول، وأسلوب فعل إشارة، والجبهة فوق والإشارة إلى الأنف، وكأنه في هذه المغايرة يقول: السجود على الجبهة والأنف، ولكن هل هما يستويان في الأمر بهما؟ أي: هل الجبهة والأنف مستويان في حكم السجود سواء أم هناك مغايرة بينهما؟ ولو كان هناك مغايرة فأيهما مائة بالمائة؟ الجبهة؛ لأنه نص صريح في العضو، وأشار إلى الأنف لأنها تتبع الجبهة في السجود، لكن هل هي تساويها في كل شيء؟ لا، لأنها لو كانت تساويها لقال: على الجبهة وعلى الأنف؛ فيكون هناك عضو ثامن؛ وقوله: (سبعة) ، تمنع وجود عضو ثامن، وكذلك يمنع من نقص عضو فيصير ستة، فالتنصيص على سبعة يمنع من أن يكونوا ستة أو ثمانية.
إذاً: الأنف ليس عضواً مستقلاً، وليس مساوياً للجبهة، ومن هنا وقع الخلاف؛ فنجد من العلماء من يقول: يجزئ أحد العضوين؛ لأنه ذكر الجبهة وأشار إلى الأنف؛ فهما سواء، وعلى أيهما سجد أجزأ.
وقال الآخرون: لا؛ لأنه لم يكتف بواحد منهما، ولم تأت (أو) التي هي للتخيير، فما قال: على الجبهة أو الأنف، وإنما قال: (الجبهة) بلفظ صريح، وأشار إلى الأنف على أنها معها، وهناك من أوجب السجود عليهما معاً، فلو اقتصر على الجبهة فقط ما صح سجوده.
القول بإجزاء الجبهة فقط يروى عن الشافعي رحمه الله، والقول بأنه يجزئ على الأنف يروى عن أبي حنيفة، ويناقش هذا القول بأن: أبا حنيفة رحمه الله ما قال: إنه يجزئ عن الأنف وحده، وإنما قال هو مخير بينهما، ولكنا وجدنا فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسجد على الجبهة والأنف ويلامس الأرض، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وجاءت الأحاديث عن أبي هريرة وعن ابن عباس: (أنهما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم يسجد على أنفه وجبهته) ولما ذكر صلى الله عليه وسلم ليلة القدر قال: (أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين) ، وجاء في الحديث: (ورأيت الطين على أرنبة أنفه) ، والأنف من أول الجبهة إلى الشفة، والأرنبة في المحل المرتفع من الأنف، فلابد من السجود عليها حتى في وقت الطين.
فإذاً: ليس هناك حاجة للخلاف الطويل، والقول بأن الأنف تجزئ وحدها قول مطروح، لكن هل تجزئ الجبهة وحدها؟ هذا هو الخلاف الصحيح، والصحيح أنه يجمع بين الجبهة والأنف.
ولو جئنا إلى معنى جانبي الجبهة هي الناصية، والناصية هي موضع الشرف والرفعة من الإنسان؛ ولذا قال الله في تبكيت الكفار: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16] ، فوصف الناصية وأراد صاحبها، فالسجود على الناصية فيه كمال الخضوع للمولى سبحانه، وهو أن تعفر الجبهة -وهي أعظم وأشرف عضو عندك- بالتراب؛ تواضعاً لله، وكذلك الأنف كما يقال: (رغم أنف فلان) فرغم من الرغام، والرغام هو التراب الحار، فإذا أرادوا مذلتك قالوا: رغم أنفك تفعل كذا، يعني: تفعل وإلا وضعنا أنفك في التراب الحار، وليس بعد هذا إهانة، فالمصلي يفعل ذلك طواعية؛ وخضوعاً لله سبحانه وتعالى، فكأنه يقول: يا رب أضع جبيني وأغبر أنفي في التراب تواضعاً لك، وشكراً على نعمائك، ولا يوفي بذلك.
إذاً: جيء بالأنف مع الجبهة لأنهما العضوان اللذان بهما يشرف الإنسان أو عليهما تقع الإهانة، فبدل ما يرغم على ذلك من خصم أو عدو، فهو يفعلها طواعية لوجه الله تعالى.
النجاشي لما انتهت غزوة بدر، دعا المهاجرين الذين عنده فاشتد عليهم الأمر: ماذا يريد منا؟ فلما دخلوا عليه وجدوه جالساً على التراب حاسر الرأس لابساً حلساً قديماً واضعاً يديه إلى الأرض، في حالة في غاية من التذلل والتواضع، فقال له جعفر: أيها الملك! دعوتنا وجئنا ووجدناك على هذه الحالة، ما الذي حدث؟ يريد: هل حدث مصيبة أم ماذا؟ قال: دعوتكم لأبشركم بأن النبي صلى الله عليه وسلم التقى مع قريش في واد يقال له: بدر، ونصره الله على أعدائه، ومما جاء عن عيسى عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب من عبده إذا أحدث له النعمة أن يحدث له تواضعاً) ، ونحن بفضل الله في كل لحظة نعم المولى تتوالى علينا، فجلوسك فقط معافى نعمة كبيرة، ولذا تأتي الصلوات الخمس في أوقات متفاوتة تجديداً للصلة بين العبد وبين ربه، وتجديداً للعلاقة بينهما.
وعلى هذا يشرع ضم الأنف إلى الجبهة وما نقول من جهة العقل معقولة، لكن حكمة التشريع فيها واضحة.