قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) أخرجه مسلم، وعند الأربعة: (أيما إهاب دبغ) ] .
انتهى المؤلف من إيراد ما يتعلق بآنية الذهب والفضة، وانتهينا من الشرح على سبيل الإجمال، وانتقل إلى أواني الجلد، وأواني الجلد المشهور أنها كانت في السابق تستعمل للماء -القربة والمزادة-، ولكن الآن أصبحت تستعمل فيما هو أعم من ذلك، وقد تختفي القربة، ولكن لا تختفي الأنواع الأخرى، فهناك من الأدوات الآن: الحقائب، وبعض الألبسة، والأحذية والكمرات وأشياء عديدة، كما يمكن أن تستعمل الجلود في الفراش والجلود على قسمين: جلود مذكاة.
وجلود ميتة.
فالجلود المذكاة طاهرة بذكاة أصلها، تدبغ وتستعمل بأية حالة من الحالات، وليس فيها بحث عند الفقهاء، وإنما البحث فيما هو ميتة، ومعنى الميتة: ما لم يذكَ كشاة تموت دون أن تذبح، أو البقرة أو الناقة أو أي حيوان، وهذا البحث يتناول جلد مأكول اللحم.
ويلحق به جلد ما لا يؤكل لحمه، وفي هذا الباب يبحث العلماء حكم استعمال جلود الميتة بعد الدبغ، وهل هو جائز أم لا؟ وهل ينفع الدبغ أم لا؟! إذاً: بصفة عامة البحث في الجلود منحصر في الميتة.
والشاة المذكاة وغيرها من الأنعام -أياً كانت- ليس في جلودها بحث؛ لأن جلدها تابع للحمها، وإن أردت أن تأكل الجلد فلك أن تأكله، وإن لم تأكله فلك أن تستعمله.
فبقيت الميتة، وما لا يؤكل لحمه، كما لو جئت إلى أسد وذبحته، وأخذت جلده ودبغته، فهل يدخل معنا أم لا؟ الذي يهمنا ابتداءً أن نُخرج جلود المذكاة -مأكولة اللحم- عن البحث، ونبقى في دائرة جلود الميتة وما يلحقها من غير مأكول اللحم، وأريد بهذا التقسيم ألَّا نتشعب في الموضوع، وقد ذكر الشارح هنا وغيره سبعة مذاهب في هذه المسألة، ولكن لا يهمنا كثرة المذاهب، إنما الذي يهمنا دلالة النصوص التي جاء بها المؤلف، وموقف الأئمة الأربعة منها، والنهاية التي نتوصل إليها.
نأخذ الحديث الأول وهو: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) أخرجه مسلم، وعند الأربعة (أيما إهاب دبغ) .
لاحظوا ترتيب المؤلف الحكيم! (إذا دبغ الإهاب) (أل) هنا للاستغراق، ولم يستثن أي نوع من الإهاب، فدل على عموم الإهاب، وكلمة: (إهاب) كما يقول علماء اللغة: تطلق على الجلد قبل دبغه، فإذا دبغ لا يقال له: إهاب.
إذاً: (إذا دبغ الإهاب) أي: الذي قبل الدبغ يسمى إهاباً، فإذا دبغ فقد طهر، إذاً: هو قبل الدبغ يكون نجساً، فالكلام -إذاً- في الميتة؛ لأن المذكاة طاهرة بجلدها ولحمها، وقد أخرجناها من قبل.
(إذا دبغ الإهاب فقد طهر) و (أل) هنا -وإن كانت للعموم والاستغراق- خاصة بالميتة بقرينة: (طَهُرَ) ؛ لأنه كان نجساً قبل أن يدبغ.
الرواية الثانية: (أيما إهاب) وهذه صيغة عموم لا تترك شيئاً، فشملت أيضاً: إهاب المذكاة، والميتة، والمأكول وغير المأكول، لكن بالقرينة إذا لم يدبغ فهو نجس.
لصيغة العموم قال الظاهرية وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: أيما -بدون استثناء- إهاب كان نجساً فدبغ فإنه قد طهر، و (أيما) هنا: تشمل الشاة الميتة، والبقرة الميتة، والبعير الميت، والكلب الميت، والخنزير الميت، ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله أخرج من هذا العموم الخنزير، وقال: أيما إهاب مأكول اللحم أو غير مأكول لعموم (أيما) ، ولماذا أخرج أبو حنيفة الخنزير؟! ولماذا أبو يوسف أدخله مع عموم (أيما) ؟ أبو حنيفة رحمه الله قال: هناك نص أقوى من هذا، وهو قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْس} [الأنعام:145] والرجس: النجس، فيقول: إذا كان الخنزير في حياته رجساًً فكيف إذا مات، أو إذا ذبحناه وأخذنا جلده؟! وكيف الدباغ يطهر الجلد وهو في حال حياته نجس؟! والحياة سبب الطهارة كما يقول مالك: الحياة سبب الطهارة، والموت سبب النجاسة.
فـ أبو حنيفة يقول: الخنزير -وهو حيٌ على قوائمه- رجس، فكيف يقال: إن الدباغ يطهر جلده؟ جاء أبو يوسف ومن قال بالعموم فقالوا: الخنزير لا جلد له، ولكن التحقيق أنه ما من حيوان إلا وله جلد، لكن الكفار -عافانا الله وإياكم- إذا ذبحوه، أزالوا الشعر وأخذوا الجلد مع اللحم.
والكلام في الجلد، وأنتم تعرفون لحم الرأس فيه شعر، ومن الناس من ينظف الشعر، ويأكل الجلد مع الرأس، إذاً: هل للخنزير جلدٌ أم لا؟ التحقيق أن له جلداً.
إذاً: قوله في هذا النص: (أيما) ، أخذ بهذا العموم الظاهرية، ومعهم أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، والإمام بنفسه أخرج الخنزير بنص آخر لا بهذا النص، ويقول: هذا النص يشمله، ولكن القرآن يخرجه؛ لأنه وصفه حال الحياة بأنه رجس.
قال رحمه الله: [وعن سلمة بن المحبق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دباغ جلود الميتة طهورها) صححه ابن حبان] .
قوله: (أيما إهاب دبغ) ، وقوله: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) فيبقى الإهاب على عمومه، ويحمل ويقيد الحديث بقيد الميتة، وهذا الذي عنيناه في أول البحث، والله تعالى أعلم.