قال رحمه الله: [عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا؛ فيقرأ في الظهر والعصر -في الركعتين الأوليين- بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحياناً ويطول الركعة الأولى، ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) متفق عليه] .
رغم تنوع الصلاة إلا أن لكل منها نصوصها، فبدأنا بالظهر والعصر؛ لأن أول صلاة جماعة في الإسلام هي الظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به ليلاً، وفرضت الصلوات الخمس بليل، نزل الصبح، وجاءه جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الظهر وصلى به، فكانت أول صلاة جماعة بعد فرضية الصلاة ليلة الإسراء هي الظهر، فيقول أبو قتادة: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر) فماذا قرأ؟ (بفاتحة الكتاب وسورتين) ؟ يقرأ أين؟ أجملها، ما دام بفاتحة الكتاب وسورتين، أي: مع كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، هذا في الأوليين؛ لأن الظهر والعصر أربع ركعات، فالفاتحة في كل ركعة مع سورة، الفاتحة مكررة ومعها سورتان في كل ركعة؛ مع أنه سيأتي أنه يجوز أن يجمع السورتين في الركعة الواحدة، ولكن ذلك ليس مراداً هنا.
(ويسمعنا الآية أحياناً) مع أن الظهر والعصر سرية، وهل الجهر من الفاتحة أم من السورتين؟ من السورتين، ومن هنا علموا أنه كان يقرأ مع الفاتحة سورة أخرى.
(وكان يسمعنا الآية أحياناً) ، يقول العلماء رحمهم الله: هذا منه صلى الله عليه وسلم ليس على سبيل الصدفة، ولكن على سبيل التعليم، كأنه يعلمهم بأنه يقرأ مع الفاتحة سورة وها هو يسمعهم الآية منها، ويقول: (أحياناً) يعني: ليس بصفة دائمة؛ لأن التعليم يحصل بمرة أو بمرتين، ويذكرهم في بعض الحالات.
(ويطول الركعة الأولى، ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) ، مفهوم ذلك: أنه لا يطيل في الثانية ولا الثالثة ولا الرابعة، وجاء التعليل عند بعض العلماء: بأنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل في الأولى قالوا: (كنا نظن أنه يفعل ذلك ليدرك المتأخر الركعة الأولى) حتى جاء في بعض الروايات عند مسلم: (كانت تقام الصلاة فيذهب الرجل إلى البقيع فيقضي حاجته، ويتوضأ، ويأتي فيدرك الركعة الأولى) .
(ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) ، وهما الثالثة والرابعة، كان يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب، ثم سكت الراوي، وفهم من هذا: أنه يقرأ في الأوليين مع الفاتحة سورة، وسكوت أبي قتادة عن ذكر قراءة سورة أو آية أو شيء سوى الفاتحة في الأخريين أخذ بعض الناس منه بأن الركعتين الأخريين يقتصر فيهما على الفاتحة وكفى.
إذاً: من يقول: لا يقرأ في الركعتين الأخريين سوى فاتحة الكتاب هذا دليله، ولكن إذا جاءتنا نصوص أخرى تدل على أن في الركعتين الأخريين قراءة، فبأي الحديثين نعمل؟ القاعدة عند الأصوليين والمحدثين: إذا تعارض ناف ومثبت فإننا نعمل بقول المثبت، وهذا لم ينف ولم يقل: لم يقرأ فيها، ولكن سكت، والسكوت عن العلم ليس بعلم، فإذا جاء غيره وأثبت لنا قراءة في الركعتين الأخريين عن النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب أن نعمل بقول من أثبت قراءته في الركعتين الأخريين، لكن المؤلف رحمه الله إنما ألف الكتاب لا ليناقش ولكن ليبين أدلة الأحكام عند الفقهاء، ولذا سماه: بلوغ المرام من أدلة الأحكام، فيأتي بالأحاديث التي استدل بها كل إمام في مذهبه، أو كل عالم فيما ذهب إليه، وكأنه يقول لك: من قال: لا يقرأ في الركعتين الأخريين إلا بفاتحة الكتاب فقط؛ فهذا دليله، ثم يأتيك بالأحاديث الأخرى ليبين أدلة الأقوال الأخرى.