قالت: (والقراءة بالحمد لله رب العالمين) ، وهنا وقفة طويلة نأخذ منها بقدر المستطاع، فعند هذه اللفظة من هذا الحديث وأحاديث وآثار أخرى نبحث هذه المسألة ليسهل علينا ما بعدها.
نحن عندنا في الصلاة قراءتان، قراءة عامة وقراءة خاصة، القراءة الخاصة: فاتحة الكتاب، لحديث: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) .
إذاً: عندنا قراءتان، قراءة خاصة وهي: الفاتحة، وقراءة عامة وهي: ما يمكن أن يقرأه المصلي بعد الفاتحة، فأم المؤمنين تقول: (كان يفتتح القراءة) ، وهل هي قراءة الفاتحة الخاصة أم القراءة العامة بالنسبة للفاتحة وغيرها؟ إذا قلنا: كان يفتتح القراءة بمعنى الفاتحة، فلا يوجد في قولها: بسم الله الرحمن الرحيم، معنى ذلك: أنها أسقطت البسملة، ومن هنا يؤخذ دليل من يقول: البسملة ليست من الفاتحة.
ومن يقول يفتتح القراءة العامة معناها: أنه يقرأ أولاً بفاتحة الكتاب المعنون عنها بالحمد، ولا يقدم السورة الصغيرة ولا الآية على الفاتحة، فيفتتح القراءة في الصلاة من حيث هي بالفاتحة أولاً، ويثني بما تيسر معه من القرآن، وإذا قلنا: يفتتح القراءة بمعناها العام، بأن يقدم الحمد لله رب العالمين؛ تكون أم المؤمنين عنت بقولها: (الحمد لله) اسم السورة لا مستهلها وأولها والآية الأولى منها، أي: كان يفتتح القراءة بسورة الحمد، والفاتحة اسمها: الفاتحة، والحمد، والصلاة، والإيمان، والنعمة، والتامة ولها أكثر من عشرين اسماً.
فإذا حققنا هذا الموقف في المراد من قول أم المؤمنين: (يفتتح القراءة) هانت علينا المسألة، لأننا وجدنا من يقول: إن المراد بالقراءة الفاتحة فيدخل فيها البسملة، ثم بعد هذا يأتي نقاش طويل جداً، حتى إن ابن عبد البر أفردها برسالة خاصة موجودة في الرسائل المنيرية، ومن أرادها فليرجع إليها، ونأتي في الموطأ وغيره ونجد من يذكر قول أبي هريرة لـ سلمان: (ائت بها سراً يا فارسي، ومن يقول: (صليت خلف أبا بكر وعمر فكانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين) ، و: صليت خلف فلان وفلان فلم أسمعهم يذكرون البسملة) ، وليس معنى عدم السماع عدم القراءة، والجمع بين الأمرين أن تأتي بها سراً.
إذاً: النقطة التي منها الانطلاق لطالب العلم خاصة أن نقول: المسألة مفروغ منها وانتهينا، ولكن حيث أوردها المؤلف نذكرها من ناحية منهجية كمسألة خلافية لنتوصل إلى النتيجة بسرعة، ونخرج بنتيجة علمية: (كان يفتتح القراءة) أي القراءتين؟ عندنا قراءتان في الصلاة: خاصة بالفاتحة، وعامة بما تيسر بعدها، وإن حملناه على الخاصة أسقطنا البسملة، وإن حملناه على العامة تكون أرادت اسم السورة، وعلى أنها الخاصة تنازعوا في البسملة، ما عدا الشافعي فإنه يقول: البسملة آية من الفاتحة، ويروي عن ابن عباس: (من ترك البسملة في الفاتحة فقد أسقط مائة وأربعة عشر آية من كتاب الله) ، أي: بعدد السور، ويجمعون على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية مستقلة من كتاب الله في سورة النمل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] .
وإذا جئنا إلى التحقيق من جانب عد الآيات، قال: أبي بن كعب (لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في المسجد فقال: ألا تريد أن أعلمك أفضل سورة في كتاب الله قبل أن تخرج من المسجد؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بيدي وسار إلى الباب، فأخذت أبطئ في الخطا أنتظر السورة، حتى قارب الباب فقلت: السورة يا رسول الله! قال: فاتحة الكتاب، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) .
نعد سبع آيات من الفاتحة: إن قلنا من: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] إلى الأخير صارت ست آيات، وإذا بدأنا بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) وجدناها سبع، وخذ المصحف تجد ذلك في الفاتحة خاصة، أنتم تعرفون في العد لآي المصحف أن الرقم يوضع في آخر الآية، ولا تجد رقماً في الأول، فإذا أخذت المصحف تجد بسم الله الرحمن الرحيم بعدها علامة الآية رقم واحد، ثم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:1-7] ، تمت السبع.
فالذين يقولون: إن البسملة ليست من الفاتحة يقسمون الآية الأخيرة قسمين، ويجعلونها آيتين، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] ، ويأتون بآية، لكن الرسم العثماني لا يمكن أن نغفله، وإن كان البصريون والكوفيون والحجازيون يختلفون في عد الآي، والفرق بينهم حوالى ست أو عشر آيات في كتاب الله كله، لكن في المصاحف الأم ما يجمع ذلك، فقال المثبتون: البسملة آية من كتاب الله، وآية في الفاتحة خاصة، ثم يكون الخلاف بعد ذلك في بقية السور، هل هي آية كما يقول الشافعي، أو تنزل فواصل لتبين اختتام السورة وافتتاح سورة جديدة؟ سبق ما يجعل كلا الفريقين على حق في كونها منها أو ليست منها؛ وبصرف النظر عن موضوع الصلاة، فالبسملة في موضوع الصلاة حققته الأحاديث الثابتة من أنه يأتى بها سراً ولو في الجهرية، ويقول والدنا الأمين رحمة الله علينا وعليه: بعض السور أو بعض الآيات قد تنزل مرة واحدة، وقد تنزل السورة الكاملة فيها الخمسون والستون والسبعون آية مرة واحدة دفعة واحدة، وقد تنزل الكلمة مستقلة بذاتها، قال: والفاتحة أنزلت مرتين، مرة بمكة، ومرة بالمدينة، وفي كلتا المرتين مرة نزلت ومعها البسملة آية منها، ومرة نزلت وليست معها البسملة آية منها، فيقول: من قال: إنها آية، نظر لبعض النزلتين، ومن قال: ليست آية، نظر لبعض النزلتين، وإذا كان الأمر كذلك من جهة النزول، وجئنا إلى الصلاة نجد النصوص موجودة وصحيحة وثابتة بين الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، لما قال القائل: (صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان ولم يكونوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم، وكانوا يفتتحون القراءة بالحمد) ، كما قالت عائشة، لكن عندما يصرح: ما كانوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم، يأتي الآخر ويقول: كانوا يأتون بها ولكن في السر؛ ولهذا سلمان لما سأل أبا هريرة ووقع النقاش قال له: (ائت بها سراً يا فارسي) .
وسيأتي لهذا زيادة روايات متعددة بأن القراءة في الصلاة على قسمين: قراءة عامة، وقراءة خاصة، فإذا حملناها على الخاصة ننفي البسملة، وإذا حملناها على البسملة يكون مرادها تسمية السورة باسم الحمد، ويأتي قوله صلى الله عليه وسلم: (هي السبع المثاني وهي القرآن العظيم) ، وسميت بالمثاني لأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة، وسيأتي الخلاف أيضاً في قراءة الفاتحة للمأموم خلف الإمام، والله تعالى أعلم.
إذاً: أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أعطتنا الافتتاحية في القراءة، وهل الأحسن أن نحملها على العام أو الخاص؟ على العام وسيأتي زيادة بحث لهذا، ونصوص أخرى في الموضوع توضحه لنا أكثر.