قال عليه الصلاة والسلام: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) ، لاحظوا هنا يا إخوان: (كبر، ثم اقرأ ما تيسر، ثم اركع) هل هناك شيء من عمل الصلاة متروك؟ دعاء الاستفتاح بعد التكبير، وهذا وارد عنه صلى الله عليه وسلم؛ فـ أبي هريرة سأل الرسول صلى الله عليه وسلم في سفر: أراك تسكت بعد التكبير وقبل القراءة، (قال: أقول: ... ) فهنا لم يذكره في هذا الموطن لأنه ليس بواجب، فالرسول لم يعلمه للمسيء صلاته، ولكن ما دام قد جاء بنصوص أخرى ننظر في هذه النصوص، وهل هي في درجة الإيجاب أو الندب أو غير ذلك؟ المهم هنا في هذا السياق ترك ذكر دعاء الاستفتاح، فقال: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) ، هنا وصف الركوع بأنه ملازم ومصاحب للاطمئنان، فقال: (حتى تطمئن) أي: وأنت في حالة الركوع، وسيأتي حديث: (حتى يعود كل فقار إلى مكانه) ، وسيأتي أيضاً أنه لم يصوب رأسه ولم يشخصه، يقول بعض السلف: حتى لو وضع القدح على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو راكع لم يتدفق، فقد كان معتدلاً اعتدالاً مثل الزاوية القائمة، فاعتدال الظهر لم يكن فيه انحناء، فاركع واستمر راكعاً حتى تطمئن، وليس بمجرد الهوي والوصول إلى مستوى الركوع ترفع، فإذا ركعت واستوى الظهر منحنياً ووصلت إلى حد الركوع فعلاً انتظر قليلاً، واطمئن واصبر في حالة ركوعك، يعني: انحناء في الحركة حتى تصل إلى درجة الركوع، ومع هذا الانحناء والوصول إلى درجة الركوع تظل ثاتباً تنتظر مطمئناً في هذه الحالة، إذاً: الطمأنينة تساوي الانحناء.
ثم قال: (ثم ارفع حتى تعتدل قائماً) ، أي: ثم ارفع من الركوع حتى تعتدل قائماً، وهذه النقطة ينبغي على بعض الإخوان أن يراعيها، وهي الرفع من الركوع، والجلسة بين السجدتين؛ لأننا نجد في كتب بعض المذاهب من يقول: هو ركن خفيف، ولم يأت خفيف ولا ثقيل في الصلاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم علّم الرجل أن يطمئن بعد أن يركع، وعلمه أن يرفع حتى يعتدل وبعض الناس ليس عنده طمأنينة في القيام، فبمجرد أن يصل إلى الاعتدال يهوي إلى السجود، وهذا لا يصح، فالاطمئنان في الاعتدال بعد الركوع كالاطمئنان في الركوع نفسه، فالركوع ركن، والطمأنينة في هذا الركن ركن.
ثم قال: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) ، وهنا أراح الناس من معركة شكلية، وهي: هل يبدأ يسجد بيديه أم بركبتيه؟ الصحيح أنه يسجد كيفما يتسهل له، والمهم أن يسجد على الأعظم السبعة، ينزل بركبتيه أو بيديه على ما تيسر له، بعض الناس ما شاء الله! رياضي ينزل بأطراف أصابعه على ركبتيه، ويقوم مثل الغزال، وبعض الناس يريد من يساعده، فلا نضيق على الناس، ولا نحجر واسعاً، واسجد كيفما تيسر لك، أما إذا كان الكل عندك سواء: فننظر ماذا صح من الكيفيتين: هل ينزل على ركبتيه أو على يديه؟ لا يبرك كبروك البعير، وكيف يبرك البعير؟ وهل ركبتاه في الأمام أم في الخلف؟ مسألة طويلة عريضة، ومتفقون بالإجماع أنه كيفما نزل إلى الأرض فقد سجد.
فهنا قال: (ثم اسجد) ، ولم يذكر له التفصيلات، والسجود: هو تمكين الجبهة من الأرض، لكن جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) ، أي: القدمين، واليدين، والركبتين، وهذه ستة، والجبهة وهي السابعة، لكن جاء هنا ركن خفيف على ما قال الأحناف: (وأشار بإصبعه إلى الأنف) ، أي: أن الأنف لا تساوي الجبهة في أعضاء السجود، لكنها لا تترك، كما جاء في حديث ليلة القدر: (فأراني في صبيحتها أسجد في ماء وطين) ، ويقول الراوي: والله! لقد رأيت الطين على أرنبة أنفه، إذاً: وصلت الأنف إلى الأرض.
ويفسر العلماء كيفية السجود على سبيل الإجمال: أن يكون باسط الكفين، فلا تضم، وبعض الناس يقول: يعجن، ووالله ما أدري ما هذا العجن! لكن حينما يكون الإنسان طاعناً في السن، ويريد أن ينهض، فيضمها من أجل أن يستطيع النهوض، لكن في كل الحالات سواء إذا كان مثل المرأة عندما تعجن، أو مثل الإنسان عندما يعجن في العجين، فهذه لم يقل بها أحد من الأئمة الأربعة، إنما قال بها بعض العلماء لوجود حديث عند أبي داود في ذلك، ولكنها حالة رئيت وصورة نقلت! واتفقوا أنه في حالة السجود يكون باسطاً لأصابع كفه، ناصباً لقدميه على رءوس الأصابع.
وهنا نرجع إلى سبعة أعظم، فقد ذكر القدمين وهما اثنان، مع أن كل قدم فيه خمسة أصابع، لكن ليست هي المقصودة، فالقدمان عشرة أصابع، والكفان عشرة، فصارت عشرين، فالرسول ذكر سبعة، وذكر اليدين والكفين وهي المعتبرة، وأن تكون القدمان منتصبتين، وأطراف أصابع القدمين متجهة إلى القبلة، فإذا كان يصعب عليه هذا الشيء، بأن كانت أصابعه قصيرة، فلا مانع لو ظلت قدمه على رءوس أصابعه ولم يثنها إلى القبلة، ولو صعب عليه وثناها إلى الخلف فليس هناك مانع، لكن إن أمكنه ذلك فهو الأفضل.
(ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) ، وليس بمجرد أن تصيب جبهتك الأرض فترفعها، ولكن تطمئن، وحد الاطمئنان في السجود والركوع إلى متى؟ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن الرسول سجد وأطال في السجود، ثم همت أن تغمزه، قالت: ظننت أنك قبضت) ، أي: لطول سجوده، وهل كل إنسان يستطيع ذلك؟ لا، فإذا كان الإنسان يصلي وحده فيطول كما شاء، لكن لا ينعس! والمالكية يقولون: إذا نعس وهو راكع لا تبطل الصلاة، وإذا نعس وهو ساجد بطلت، قالوا: لأن النعاس مع الركوع يكون خفيفاً، ولو زاد لسقط على الأرض، بخلاف النعاس مع السجود، فيوجد سبعة أركان يعتمد عليها؛ فيشبع نوماً ولا يسقط.
فإذا كان الإنسان وحده فلا حد للطمأنينة، أما إذا كان يصلي بالناس فكيف يكون الحال؟ يرى العلماء رحمهم الله أن أقل الطمأنينة بقدر ثلاث تسبيحات، وأذكر عالماً كان في زمن الملك عبد العزيز، وكانوا ثلاثة من العلماء، واحد في مكة واثنان في المدينة، وكان أحدهم مسئولاً عن التفتيش في التدريس، وواحد ندبه للصلاة، فقال: بشرط أني في السجود والركوع أسبح ثلاث عشر تسبيحة، فالملك عبد العزيز يغفر الله له قال: هذا تطويل على الناس، فجاء الرجل وسألته: لماذا اشترطت هذا الشرط وفي السنة: (من أمّ بالناس فليخفف) ؟ فقال: أنا لا أريد أن أصلي بالناس، ولذا اشترطت هذا حتى يقولون لي: أنت لا تصلح للصلاة! وفعلاً ما تولى الإمامة.
فجعلوا حد الطمأنينة أن الجسم -والعمود الفقري مركب من عدة فقرات- حينما يكون قائماً ويتحرك الظهر إلى الركوع، فإلى أن تطمئن الفقرات في أماكنها وتستقر هذه طمأنينة، وكذلك في السجود.
وهناك بحث أصولي: الزائد عن الواجب واجب أم ليس بواجب؟ فمثلاً: أقل الواجب ثلاث تسبيحات، فإذا سبح عشرة وكان وحده وليس إماماً، فهل العشر تسبيحات واجبة أم الواجب الإتيان بثلاث، والسبع ليست بواجبة؟ وماذا يترتب على هذا؟ هل يثاب على العشر تسبيحات ثوابه على الواجب؟ في الحديث القدسي: (أفضل ما تقرب العبد إلي بما افترضته عليه) ؛ لأن أجر الواجب أعظم من أجر التطوع، أو أن الكل واجب لأنه متصل ولا فاصل بينها، يهمنا أن أقل ما يصدق عليه طمأنينة في الركوع والسجود والجلسة بين السجدتين قدر ثلاث تسبيحات، وفي الاعتدال من الركوع إذا أتى بالزمن الذي يسع الثلاث يكون قد اطمأن، وإن زاد زاد الله له في حسناته.
(ثم ارفع حتى تطمئن جالساً) ، أي: من السجود حتى تطمئن جالساً، ولا تقل: هذا ركن خفيف، وترفع وتعود إلى السجود دون أن يستقر الجسم قاعداً، لابد أن توجد هيئة الجلوس ومعها طمأنينة.
(ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) ، أي: اسجد السجدة الثانية كما سجدت الأولى حتى تطمئن ساجداً.
(ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) ، وإذا فعل هذا في صلاته سواء كانت ركعتين أو أربع، فهل بمجرد ما فعل هذا انتهت الصلاة؟! أين الجلسة للتشهد الأوسط والأخير؟ وأين التسليم؟ فهل ذكر له جلستي التشهد؟ لم يذكرهما، وهل ذكر له التسليم؟ لم يذكره؛ ولذا قال الأحناف -وإن كان هذا لم يتفق عليه في مذهبهم-: أنه إذا انتهى من التشهد، وصدر منه ما ينافي الصلاة فقد تمت صلاته؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر له السلام كعلامة على الخروج من الصلاة، والجمهور يقولون: افتتاحها التكبير، واختتماها التسليم.
فهنا يقول العلماء: إنما ذكر له الطمأنينة لما رآه يتعجل ولا يقيم للصلاة طمأنينتها، وسكت عن الجلوس للتشهد السلام؛ لأنه رآه جلس وتشهد وسلم، فهو ليس بحاجة إلى تعليم التشهد ولا السلام، فيكون حديث المسيء في صلاته إنما فيما رآه صلى الله عليه وسلم من تقصير الرجل، وسكت عن الباقي المجزئ، وهذه وجهة نظر من يرى أن هذا الحديث خاص بما جهله الرجل، وبما لم يحسنه في صلاته التي رآه فيها صلى الله عليه وسلم.
وإلى هنا انتهى شرح الحديث في الجملة.