قال رحمه الله: [وعنه -أي: عن أنس - رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد) أخرجه الخمسة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة] .
هذا الحديث يعده العلماء من علامات الساعة السابقة، أو الصغرى، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل أن تقوم الساعة يتباهى الناس بالمساجد بكثرتها وفي صنعتها.
ويقول بعض العلماء: ما ضيع الناس دينهم إلا تباهوا بالمساجد وزخرفوا المصاحف.
وجاء عن بعض السلف: يقيمون المساجد ولا يصلون فيها، ويزخرون المصاحف ولا يقرءون فيها.
ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: يتخذ أحدهم السجاد والسبحة والمصحف قنية وزينة، فالسجادة لا يصلي عليها، والسبحة لا يسبح الله بها، والمصحف لا يقرأ فيه، إنما هذه -كما يقال- عادة.
ويذكر علماء الأدب أن في بعض البلاد كانت هناك المنافسة في العلم، وفعلاً كانت تلك البلد -كما يقال- مهبط علم، وتخرج منها كبار العلماء، فكان عوام الناس يتشبهون بالعلماء، ويريدون أن يحاكوا حالة العلماء؛ لأن العلماء كانت لهم عزة وكرامة، فكان الأغنياء يتشبهون بالعلماء، فلربما لبس الواحد منهم لبس العلماء، ثم يقتني مكتبة في بيته، ويعنى بها في شكلها وتجليدها، وتصبح كالتحفة، وهو لا يعرف شيئاً مما فيها، وهمه أن يقال: فلان عنده مكتبة صفتها كذا.
لأن هذا من شأن العلماء، فهذه مباهاة في المكتبات، وزي العلماء، وكذلك التباهي بالمساجد.
فقد يكون هناك مسجد في حي، فتأتي جماعة جديدة، وتبني لها مسجداً، ويقولون: كما أن لهم مسجداً فنحن أيضاً صار لنا مسجد، وتأتي جماعة أخرى غير الذين تقدموا وتقيم لها مسجداً مع عدم الحاجة لذلك، فليست بينهما مسافة كبيرة، وليست هناك مشقة، والمسجد الأول يسع الجميعفهذه مباهاة، والفضيلة في هذا للأقدم، أي: في حالة المنافسة.
وهكذا تصبح المساجد في معرض المنافسة في شكلها، ولكن الله سبحانه وتعالى ما جعل المساجد ليتفاخر بها الناس، وإنما جعل إعمار المساجد لذكر الله، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36-37] .
وعلى هذا إذا وجدنا من يتباهى بالمسجد، وزاد فيه سعة أو رفعة أو تشييداً منافسة لغيره، فقد دخل في هذا الحديث، وهو المباهاة بالمساجد.
ويذكرون عن بعض المذاهب -وهو معروف- أن إمام المذهب يجيز ذلك، ويقول: إنه من باب تكريم المسجد والعناية به، وكما يحتفي الإنسان ببيته يحتفي ببيت الله.
لكن بيت الإنسان لمعيشته ولنومه وجلوسه وأمور دنيوية، وبيوت الله ليست من هذا القبيل.
وبعضهم أيضاً يستدل بعموم الحديث: (من بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنة) إلا أن المثلية نحن لا نعرفها على حقيقتها؛ لأن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وبناية الجنة غير بناية الدنيا، كما في حديث خديجة رضي الله تعالى عنها لما جاء جبريل وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقرئ خديجة السلام، وبشرها يبيت في الجنة من قصب -أي: من لؤلؤ- لا تعب فيه ولا نصب) ، فقصب من لؤلؤة واحدة، وأين بناء الجنة من بناء الدنيا؟! وقد جاء في بعض الروايات: (ولو كمفحص قطاة) ، والقطا طائر معروف أقل من الحمامة، وأكبر من العصفور، إذا أرادت أن تبيض تفحص الرمل حتى تجد مكاناً تجعل بيضها فيه، ومفحص القطاة لا يسع القطاة نفسها، فكيف يكون محلاً للصلاة؟! فالمثلية يعلمها الله سبحانه وتعالى.
فقالوا في حديث: (بنى الله له مثله في الجنة) لا مانع أن يزخرف ويحسن، حتى يكون البيت الذي يبنيه الله له في الجنة مثله.
فهل الله يكون خسراناً إذا كان البيت الذي سيبنيه الله له في الجنة مثل المسجد الذي بناه هو في الدنيا؟ فنعيم الجنة فوق التصور، أتنزل به إلى مثلية الدنيا! لقد ضيعت على نفسك الشيء الكثير، دعه لكرم الله.
والحديث هنا: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد -أو في المساجد-) فتكون المباهاة في أي شكل من أشكاله، في سعته، وفي ارتفاعه، ونوع بنائه، وزخرفته، فكل هذه الأشياء هي موضع المباهاة، أما إذا كانت المباهاة في كثرة صلاتهم فيه وإعماره بذكر الله، فهذه منافسة حميدة، فلو أن أهل كل ديار نافسوا الآخرين فقالوا: نحن مسجدنا يصلي به عشرون صفاً، ويصلي به ألف مصل، ومسجدكم لا أحد يصلي فيه، فهذه تكون منافسة في الخير، وليست مباهاة.
فهذا الحديث بمنطوقه يحذر من المباهاة في المساجد، وبمفهومه النهي عن ذلك، فلا ينبغي أن تُجعل المساجد موضع مباهاة، كما يتباهى الناس في بناء الفلل والعمائر، ونوع السيارة الفاخرة؛ لأنه ينقل المساجد عن موضوع رسالتها لذكر الله وما والاه إلى أمور أخرى لأغراض شخصية.
والله تعالى أعلم.