قال رحمه الله تعالى: [وعنه -أي: عن أبي هريرة رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع رجلاً ينشد الضالة في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك؛ فإن المساجد لم تُبن لهذا) رواه مسلم] .
هذا العمل مما ينبغي أن تصان المساجد عنه، فإذا من ينشد دابة -أو حاجته بصفة عامة- في المسجد فقل له: لا ردّها الله عليك.
والله هذا رد عجيب، ولم يقل: أسكتوه.
ولم يقل: امنعوه.
ولم يقل: أفهموه بأنه لا ينبغي هذا هنا، ولكن: (يدعن عليه: (لا ردّها الله عليك) ، فيعامل بنقيض قصده، هو ينشد: من رأى لي دابة، صفتها كذا وكذا، يريد بذلك الحصول عليها، وأن ترد إليه، فيعامل بنقيض قصده، والذي يعلم أنه إذا أنشد ضالته في المسجد ردّ عليه المسلمون بقولهم: (لا ردها الله عليك) هل سيأتي وينشدها في المسجد ليسمع هذا الجواب؟ لا والله وقاس العلماء على الدابة كل ضائعة.
ثم قالوا: وإذا ضاعت الضائعة في المسجد، كإنسان جاء بما يسجد عليه فضاع منه، فبحثت عنه فلم يجده، أو سقطت منه محفظة ماله، أو سقطت ساعته من يده، أو سقط منه شيء كان يحمله، فليس له أن ينشده في المسجد، فأي ضائعة ضلت عليه في المسجد، أو في غير المسجد فهي كذلك، إلا أن بعضهم قال: إن كانت الضالة ضلت عليه في المسجد فلا مانع من إنشادها في المسجد.
والآخرون قالوا: لا؛ فإن الحديث لم يخصص: (إذا سمعتم من ينشد ضالةً في المسجد) والضالة: الضائعة؛ لأن الضلال: الضياع والتلاشي وعلى هذا فإن قوله: (ضالته) يشمل كل ضالة، سواء كانت دابة، أم متاعاً، أم سلعة، أم أي شيء قليل أو كثير ضل على صاحبه في المسجد أو في غيره، فلا يجوز له أن ينشده في المسجد.
ثم قالوا: فأين ينشدها والمسجد موضع التجمع؟! قالوا: يقف على باب المسجد، وعند خروج الناس من الصلاة ينشد ضالته، فيقول: من رأى لي ضالتي أو: ضل علي كذا.
فمن رآه؟ فيكون إنشاده للضالة خارج المسجد.
ثم التعليل في الحديث: (فإن المساجد لم تبن لذلك) أي: لم تبن للبحث عن الضوال؛ لأن هذه أمور دنيوية.
ونظير ذلك ما فعله الأعرابي، فقد جاء أعرابي إلى المسجد فأناخ راحلته ودخل المسجد، ثم تنحى جانباً وجلس يبول، فقام الحاضرون ليخرجوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتركوه، ولا تزرموه) وأي: لا تحملوه على قطع البول؛ لأنه يؤذيه، وسيعدد مواضع البول؛ لأنه إذا أراق البول وهو جالس في مكانه انحصر البول في مكان محدود، لكن إذا أزرموه، وقام وهو يبول ستتسع المسافة إلى مقدار كبير، فنهاهم عن ذلك، فلما قضى بوله دعاه، وأمر بذنوب من ماء فأُهريق عليه، والذنوب: الدلو الكبير، وهذا تقدم في مبحث تطهير الأرض من البول بمكاثرة النجاسةَ بالماء.
فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أخا العرب! إن هذه المساجد لم تبن لذلك -كما قال في الأول-، وإنما بنيت لذكر الله وما والاه) ، فذكر الله كقول: (لا إله إلا الله) ، (أستغفر الله) ، (الحمد لله) ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وكل ما كان فيه ذكر الله، وما والاه حلق العلم، من المدارسة، ومن المذاكرة، ومن الموعظة، فكل ذلك داخل في ذكر الله وما والاه، كما قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] .
فالأعرابي لما رأى الفارق الكبير بين جماعة يريدون أن يضربوه ويهيجوه ومن يقول: يا أخا العرب! إنها لم تبن لذلك، إنها لكذا وكذا قام في الحال، ورفع يديه وقال: اللهم ارحمني وارحم محمداً، ولا ترحم معنا أحداً.
فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً) ، فالله تعالى يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] ، وأنت تريد أن تحصرها عليّ وعليك! والأمة هذه كلها ما مصيرها؟! ويهمنا قوله: (إن هذه المساجد لم تبن لذلك، إنما هي لذكر الله وما والاه) .