يبدو لي -والله تعالى أعلم- أن الله سبحانه وتعالى جعل للنبي صلى الله عليه وسلم المعجزات على قسمين: قسم مشاهد في حال حياته، وقسم مدخر لما بعد موته، يأتي على مدى تعاقب الأجيال والأزمان، وكلٌ يؤدي عمله، فالمعجزات التي كانت في حياته صلوات الله وسلامه عليه يشاهدها الصحابة بأعينهم فيزدادون إيماناً ويقيناً وتصديقاً برسول الله، كما جاء عن العباس رضي الله تعالى عنه أنه لما أخذ أسيراً في بدر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (افد نفسك وابن أخيك، فقال: ما عندي شيء يا محمد! فقال: أين المال الذي أعطيته أم الفضل وقلت لها: إن سلمت في سفري فبها، وإلا فهذا لأولاد فلان؟) فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، والله ما حضرنا أحد، وما كنت إلا أنا وهي! فتلك النجوى جعلت العباس يشهد الشهادة، ويزداد إيماناً، فإنه قد كان مسلماً، وكان يريد أن يهاجر، فكتب إليه الرسول أن يبقى في مكة، وكان يراسله بأحوال المشركين في مكة، وقال له: (كما ختم الله بي النبوة، يختم بك الهجرة) ، فكان العباس من آخر المهاجرين.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قافلين من بعض الغزوات، فعرسوا ليلاً، وقال صلى الله عليه وسلم: (من يكلأ لنا الفجر؟) فقال بلال: أنا، يقول بلال: أنخت راحلتي، واستقبلت الشرق بوجهي، واستندت بظهري إلى الراحلة أنتظر الفجر حتى يطلع، فما زلت أنتظر الفجر حتى جاء الشيطان، وأخذ يهدهدني كما تهدهد الأم طفلها، حتى نمت، فما استيقظوا إلا بحر الشمس، وجعل عمر يقول: الصلاة، ويصيح، والرسول نائم، وما كانوا يجرءون أن يوقظوه من نومه، مخافة أن يكون، فلما سمع الأصوات استيقظ، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر: (كأني بـ بلال وقد أتاه الشيطان، وأخذ يهدهده كما تهدهد الأم طفلها حتى نام) ، فجاء بلال فقال: أخذ بروحي الذي أخذ بأرواحكم، أنا واحد مثلكم، يا رسول الله! أنخت راحلتي، وأخذت أنتظر الفجر بوجهي، فما شعرت إلا والشيطان يهدهدني كما تهدهد الأم طفلها حتى نمت، فقال أبو بكر الصديق: أشهد أنك رسول الله! وهو يشهد من قبل، وهو الصديق، لكن ظهور المعجزة تجدد اليقين.
ولما كانوا في الخندق في شدةٍ وجوع وبرد وخوف، فرأى جابر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ربط الحجر على بطنه من الجوع، فذهب إلى أهله، فقال: والله لقد رأيت رسول الله وفي صوته ضعف، وهو عاصب على بطنه الحجر، قالت: والله ما عندي إلا صاع من شعير، وعندنا العناق، فقال: سأذبح العناق، وتطحنين الشعير، وتصنعين طعاماً لرسول الله، فذهب جابر وأسر في أذن رسول الله فقال: عندنا غُديٌّ -ولم يقل: غداء- لك يا رسول الله! فإذا بالرسول يأمر رجلاً أن يصرخ في الجيش: يا معشر المسلمين! جابر صنع لكم غداء، فخرج جابر واستحيا، ماذا يفعل؟! وبهت، فذهب الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى بيت جابر، فسبق إلى البيت وقال لامرأته: انفضحنا! قالت: ماذا حدث؟! قال: صرخ في الجيش كله، وجاءك بالناس كلهم! فقالت: الله ورسوله أعلم، لا عليك.
وهذا من كمال عقلها، فهو الذي دعاهم وسيدبر أمرهم، فأوقفهم على الباب، وأمرهم أن يدخلوا عشرة عشرة، فشبع الجميع وبقت فضلة، فقال: (لم يبق إلا أنا وأنت، كل، وائمر امرأتك أن تأكل، وأن تقسم على جيرانها، فإن بالناس حاجة) .
وهكذا قضية المزادة، ومعجزة حفنة التمر التي وضعها على الرداء فتكاثر حتى تساقط من الرداء، وأكل منه الجيش كله، وهذه المعجزات غالباً تكون في وقت الشدة، وفي عام الحديبية عندما نزلوا في أرض الحديبية وجدوا بئرها جافة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بسهم من كنانته وقال: (انزل واغرسه في قاع البئر) ، فجاش الماء حتى إن الرجل أدرك نفسه حتى لا يغرق، فظلوا ومدة مقامهم وهم يشربون ويتوضئون من هذه البئر، وفي تبوك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقربن أحد العين قبل أن أصل إليها) ، وكان من أمرها أن جرت بالماء.
ففي حالات الشدة تأتي المعجزة لتجدد للصحابة رضي الله تعالى عنهم اليقين، فمثلاً: كان الصحابة في غزوة الخندق قد بلغت قلوبهم الحناجر من شدة الخوف، فحينما تأتيهم معجزة مثل هذه يطمئنوا، كأن يكثر التمر، أو يكثر الطعام، أو يكسر الكدية، وهي صخرة عظيمة عجزوا عنها، فتوضأ صلى الله عليه وسلم ونضحها بماء وضوئه، وضربها ثلاث ضربات حتى تفتتت، فكانوا في خوف وفي شدة فتأتي المعجزة فتذهب أثر هذا الخوف، وتورث الطمأنينة.