وإذا كان الوضع كما هو الآن في عموم المساجد، حيث تكون أرض المسجد خرسانة، أو بلاطاً، أو رخاماً، أو فراشاً، فلا يتأتى للإنسان -إذا كان يصلي على رخام مثل الزجاج- أن يبصق عن يساره تحت قدمه، ولا يمكن أن يدفنها في الرخام وفي هذه الحالة يرجع إلى طرف ثيابه، فإن كانت ثيابه بيضاء ونظيفة فيتعين عليه أن يكون في جيبه منديل، وهذا مما تدعو إليه حياتنا العامة الآن.
كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: (يحدث للناس أحكام بقدر ما أحدثوا) وهو قالها فيما يتعلق بالجنايات، ونحن نقول الآن: يحدث للناس تغيير في الأحكام بسبب ما حصل من تغير الأحوال بمرور الزمن وأحوال الحياة.
فهذا حديث صريح: (ولكن عن يساره تحت قدمه) ، فهل يمكن أن نطبق هذا الحديث كما يفعل بعض الإخوة الذين يتمسكون بتطبيق حرفية الأحاديث.
الجواب: لا.
ومن هنا ننتقل إلى ما كنا فيه من الصلاة في النعال، فإذا كان صلى الله عليه وسلم نهى عن البصاق تجاه القبلة لعلة محددة، وعن يمينه لعلة معينة، وأباح عن اليسار، وأن يدفنها حتى لا يؤذي بها فإنه إذا كانت صلاته في النعلين -بما يعلق فيهما- ستؤذي غيره فحينئذٍ نقول: لا تصل في النعال.
أما لو كانوا في سفر ونزلوا في الخلاء، والأرض ليست لينة أو ناعمة، وإذا خلع النعلين لا يستطيع أن يقف باطمئنان واستقرار، وكانت النعلان طاهرتين فإنه يصلي فيهما؛ لأنه مشروع، ولم يتعارض مع مصالح أخرى، فقوله: (عن يساره وتحت قدمه) كان يتناسب مع ذاك الوقت، أما الآن فقد حدث ما يتعارض مع ذلك.
فلا نستطيع أن نطبق الحديث، ونحن لا نرد الحديث، ولكن نعجز عن تطبيقه؛ لأن تطبيقه في الرخام غير ممكن، وتطبيقه على مثل الفراش اليوم غير ممكن، فلا نتمسك بحرفية الحديث مستدلين بقوله: (عن يساره تحت قدمه) ، وهذا -كما أشرت- يربي الذوق، والذوق في الأخلاق إحساس وسمو، يتفاوت الناس فيه كما بين السماء والأرض.
فانظر إلى معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه إذ يقول: منذ أسلمت ما بصقت تجاه القبلة قط، لا في صلاة ولا في غيرها.
فما هو الذي منعه؟ إن معاذاً كان كأنه يستشعر عظمة الكعبة وحرمتها عند الله، ولو كانت بعيدة لكنه تجاهها، ونحن نجزم بأن البصاق في غير اتجاه القبلة أولى من البصاق في اتجاه القبلة، ونحس بمعنى لا نستطيع أن نعبر عنه.
وكنا نرى بعض الأشخاص في المسجد النبوي في أوائل الثمانينات -ولم تكن الكهرباء قد عمت البيوت، وكان المسجد النبوي هو المقيل للناس، خاصة في رمضان- فيأتون المسجد النبوي من أجل التبريد؛ فقد كانت فيه مراوح، فربما تجد إنساناً ينام ماداً قدميه إلى القبلة، وبيننا وبين الكعبة أكثر من أربعمائة كيلو، فكنا نرى بعض الأشخاص إذا وجد إنساناً نائماً حول رجليه عن القبلة إلى الجهة الثانية، فالنائم يقوم ويقول: ما هذا؟! فيقال له: كيف تمد رجليك تجاه الكعبة! فيقول: الكعبة بعيدة، ولكن الشخص الذي أيقظه في عاطفته أن نوم هذا الشخص ماداً قدميه إلى الكعبة فيه إهانة للكعبة، مع أن النوم مع مد القدمين إلى الكعبة جائز، فالميت عند الاحتضار نوجهه، ونجعل قدميه إلى الكعبة ورأسه إلى الشمال، فالمصلي -في حياته- إذا مرض ولم يستطع أن يصلي قائماً ولا جالساً فليصلِّ نائماً مستلقياً على ظهره ماداً قدميه إلى القبلة؛ لأنه إذا أحس بالعافية وجلس فسيكون وجهه إلى القبلة، لكن لو كان العكس فجعلنا رأسه إلى القبلة، ونشط وتعافى وجلس فسيكون مستدبر القبلة، وهذا ينافي الصلاة.
فأقول: هذه عاطفة عند الناس، والخطأ والصواب شيء آخر، ويكفينا في هذا نموذج من معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه حين قال: (ما بصقت تجاه القبلة منذ أسمت في صلاة ولا في غيرها) .
فمن الذي نهاه عن هذا؟! وأين النص الذي منعه أن يبصق جهة القبلة؟ إنه إحساس عاطفي تقديراً للكعبة المشرفة.