قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه، فلا يبصقن بين يديه، ولا عن يمينيه، ولكن عن شماله تحت قدمه) ، متفق عليه.
وفي رواية: (أو تحت قدمه) ] .
في هذا الحديث النبوي الشريف -مع الحث على الخشوع في الصلاة- آداب أخوية واجتماعية، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الصلاة) ، وانظر إلى قوله: (إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه، فلا يبصقن) ، فإنه كان يمكنه أن يقول: لا يبصقن أحدكم في الصلاة قبل وجهه؛ فإنه يناجي ربه.
فقال: (إذا كان أحدكم في الصلاة) ليوقظ في الإنسان هذا المعنى العظيم، وهو حقيقة عمله.
فهو في صلاته يناجي ربه، والمناجاة أخص من الحديث؛ لأنها بين الصديق والصديق، ولأنها مما يحرص المتناجون أو المتناجيان على الحفاظ عليه، كما بين سبحانه في فوارق الحديث بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] .
وكما في قصة أبناء يعقوب إذا قال تعالى عنهم: {خَلَصُوا نَجِيّاً} [يوسف:80] ، أي: يناجي بعضهم بعضاً يدبرون أو يتآمرون كيف يفعلون إذ أخذ منهم أخوهم.
فليست المناجاة أمراً علنياً ولذلك إذا كان المجتمعون ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر؛ لأن ذلك يحزنه، حيث يقول في نفسه: ماذا يقولون؟ وفي أي شيء يتناجون؟ وعن أي إنسان؟ فإذا كانوا أربعة فلا بأس أن يتناجى اثنان، والثالث والرابع يستمران في حديثهما.
فالمصلي في تلك الحالة يناجي ربه؛ لأنه يخاطب ربه سبحانه بحديث النجوى، وليس بحديث الجهر والإعلان، وكلما كان الحديث ذا أهمية أخذ طريق النجوى، سواءٌ أكان بين الصديقين، أم بين الشريكين، أم بين المهتمين بأمر خطير يخفونه عن الناس، وإذا تفاهموا فيه تفاهموا بالنجوى، ولهذا قال الحسن أو ابن المبارك: إذا أردت أن تدخل على الله بغير استئذان، وتخاطبه بلا ترجمان، فأسبغ الوضوء، وأتِ المسجد واستقبل القبلة، وكبر للصلاة فإنك تخاطب المولى سبحانه بلا ترجمان بينك وبينه، وبأي لسان يفهم عنك.
وكذلك كل إنسان عندما يدخل في صلاته يقول: (الله أكبر) ، ثم يأتي بسورة الفاتحة بما فيها من المعاني المعروفة للجميع، فهو يناجي ربه إلى أن يقول: (إياك) أي: دون سواك (نعبد) ، (وإياك) أي: دون سواك (نستعين) ، ثم يقول: (اهدنا) ، ففي هذه الحالة يجب أن يستشعر عظمة من يناجي، ويستشعر أنه يستقبل ربه، كما جاء في بعض الروايات: (فإن الله تجاه وجهه) ، وجاء أيضاً في بعض الروايات: (إن المصلي إذا أقبل على الله أقبل الله عليه) ، فإذا أعرض أعرض عنه، وهذا من آفات الالتفات كما يقولون، ومن الجفوة، فإذا كنت تكلم إنساناً، والتفت عنه، فإن هذا ليس من الأدب، فالالتفات مخلٌ بالأدب، ومتنافٍ مع الخشوع، وكذلك هنا، فإذا كان يناجي ربه ثم غلبه البصاق فلا يبصقن تجاه وجهه؛ لأن الله تجاه وجهك، فأنت تناجي ربك، وما دمت مقبلاً على الله، فالله مقبل عليك.
وهذا من الآداب الرفيعة، وإن كنا لا ندرك ولا نحس، ولكن نؤمن، ونوقن بما أخبرنا به صلى الله عليه وسلم فقال: (فلا يبصقن تجاه وجه، ولا عن يمينه) ، وجاء في بعض الروايات التعليل لهذا؛ بأن تجاه وجهه رب العالمين يناجيه، وعن يمينه ملك الحسنات، فلا يبصق عن اليمين فيؤذي الملك، ولا يبصق أمامه؛ لأنه إساءة أدب مع الله سبحانه وتعالى.
وجاء عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال: (ما بصقت تجاه القبلة منذ أسلمت) احتراماً للقبلة في غير الصلاة، وخشوعاً في الصلاة أثناء الصلاة.
ثم بين صلى الله عليه وسلم ما نفعل إذا عرض لنا البصاق ونحن في صلاة -فإن الالتفات منهي عنه، والبصق تجاه القبلة منهي عنه- فقال (ولكن عن يساره تحت قدمه) ، فإذا كان عن يساره وتحت قدمه فستكون التفاتة جزئية؛ لأن قدمه بجواره، وفيه تعظيم للقدم اليمنى، فيكون البصق تحت القدم اليسرى.