قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) .
رواه البخاري، وللترمذي -وصححه-: (إياك والالتفات في الصلاة؛ فإنه هلكة، فإن كان لا بد ففي التطوع) ] .
يسوق لنا المؤلف رحمه الله في (باب الحث على الخشوع في الصلاة) ما يتعلق بالالتفات في الصلاة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان) ، وجاء أيضاً عن أبي ذر أنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل شيء، وسألته عن الالتفات في الصلاة فقال: إنما هو هلكة، فإن كان ولا بد ففي النافلة) .
فقول أم المؤمنين عائشة -زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (سألت رسول الله عن الالتفات في الصلاة ... ) فيه بيان أن الالتفات لا يكون إلا عن شغل يُشغله عن الصلاة، وهذا يتنافى مع الخشوع الذي عقد المؤلف الباب من أجله، وبيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا الالتفات إنما هو اختلاس، والاختلاس: هو أخذ المال خفية، كشخص يعمل في محل، وتحت يده صندوق المبيعات أو الأمانات، فيختلس -أي: يأخذ- من المال خفية دون أن يعلم به صاحب المال، ولكنه -كما يقال- أمر خفي في بدايته ظاهر في نهايته، بخلاف الاغتصاب، فالغصب ظاهر في أوله ظاهر في آخره؛ لأن الغاصب لا يبالي، فيأخذ جهاراً اقتداراً، أما المختلس فهو يخشى السلطة، ويخشى صاحب المال، فيأخذ المال خلسة.
وهكذا الشيطان، يأتي للإنسان ويحمله على الالتفات بأي صورة، فيورد عليه صورة عدو، ويورد عليه صورة طلب حاجة، ويسمع أدنى صوت بجانبه، يميناً أو يساراً، ولخلو ذهنه أو فراغ قلبه عن الشغل بالصلاة يستهويه، أو يلتفت ليعرف مصدر هذا الصوت، أما إذا كان خاشعاً في صلاته مشتغلاً بما يتلفظ به، معظماً لمن يناجي، ولمن هو قائم بين يديه، فإنه لا يبالي بتلك الأصوات، أو بتلك الحركات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة لشغلاً) ، أي: عما سواها.
ومن هنا كان الالتفات انشغالاً عن الصلاة، وكونه اختلاساً فالاختلاس ينقص المال، فإذا كان كل يوم يأخذ المؤتمن من المال درهماً فإنه بعد عدة أيام، وبعد عدة شهور، وبعد عدة سنوات، سيكون قد حصل في المال نقص كثير، وهكذا الصلاة التي يلتفت فيها الإنسان، فإنه قد أنقص منها بقدر التفاته، فتكون الصلاة قد نقصت، كما أن رأس المال عند المؤتمن عليه قد نقص، والمختلس قد يختلس شيئاً قليلاً، وقد يختلس شيئاً كثيراً، وكذلك الشيطان، فقد يختلس من الإنسان في صلاته بالتفاته شيئاً قليلاً، وقد يختلس شيئاً كثيراً، سواءٌ أكان في نوع الالتفات ومدى انحرافه، أم كان في كثرته ومداومته عليه، فكل ذلك نقص يقع على الصلاة.
وكون الالتفات اختلاساً ناحية تربوية، وناحية معنوية فيما ينقص من الصلاة، لكن الفقهاء يبحثون عن صحة الصلاة وعدم صحتها، فيقولون: الالتفات إما أن يكون جزئياً، أو كلياً ومعنى (جزئياً) : أن يلتفت بعنقه قليلاً وصدرُهُ لا يزال إلى القبلة، ويسمى هذا الالتفات التفاتاً جزئياً، أما إذا التفت بكليته وصدره، فبعد أن كان إلى القبلة، ذهب إلى اليمين، وانحرف بصدره عن القبلة فهذا التفات كلي، فيقولون: إن الالتفات الكلي مبطل للصلاة؛ لأنه يُفقد الصلاة شرطاً من شروط صحتها في لحظة منها، وهو شرط استقبال القبلة، وهذا في الأمور العادية والاختيار، أما إذا كان في حال الضرورة، فالضرورات لها أحكامها، كمن كان في صلاة الخوف وهو يجري، أو كان يفر من عدو وهو في الصلاة، فهو سينحرف عن القبلة قطعاً، أو كان في حالة قتل العقرب أو الحية أثناء الصلاة، فهو سينحرف عن الصلاة انحرافاً كلياً قطعاً، لكن هذه حالات اضطرارية، والضرورات تبيح المحظورات، والبحث إنما هو في الأمور العادية الاختيارية.
أما إذا صلى في جوف الكعبة فجعل الباب خلفه، وصلى إلى الجدار المقابل للباب، ثم إذا به ينحرف انحرافاً كلياً إلى اليمين ثم انحرف انحرافاً كلياً إلى اليمين -أي: إلى الجدار الثالث- فكل ذلك لا يبطل الصلاة من جهة الالتفات أو الانحراف؛ لأنه بانحرافه لم يخرج عن استقبال الكعبة، وهذا إذا كان يصلي داخل جوف الكعبة.
أما ما عدا ذلك فنرجع إلى الحالة والصورة التي بسببها التفت التفاتاً كلياً لنعرف هل هي حالة مشروعة ومرخص له فيها؟ فإذا كانت كذلك فلا تبطل الصلاة، أما إذا كان عبثاً وغفلة وسهواً منه فإن كان التفاتاً كلياً بطلت صلاته، وإن كان التفاتاً جزئياً لم تبطل الصلاة.
وأما كون الالتفات في الصلاة هلكة فلأن الاختلاس ينقص من أجر صلاته، والنقص من الأجر هلكة، فنقص مع نقص مع نقص سينتهي إلى نقص كثير يؤدي إلى الهلاك، أو أن الالتفات الجزئي قد يجعله يتعود ذلك، ثم يأتي منه التفات كلي دون أن يشعر، ويرجع ويستمر في صلاته وتكون صلاته باطلة، فتكون الهلكة.
ويهمنا أن الالتفات في الصلاة ينافي الخشوع، ثم قال في هذا الحديث: (فإن كان ولا بد -أي: إن اضطر إلى الالتفات- ففي النافلة) .
ومثال هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، إذ إنهم لما خرجوا -وقبل أن يصلوا إلى الموقعة- عرسوا في الليل، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يحرس لنا الوادي؟) ، أي: الذي فيه العدو، فقام رجل وقال: أنا يا رسول الله فقال: (خذ عليك سلاحك، وخذ جوادك) فذهب، ثم طلع الفجر والناس ينتظرون أن يرجع هذا الفارس بالخبر فما رجع، فطال عليهم، فكان صلى الله عليه وسلم يصلي ويلتفت إلى جهة الوادي يتطلع إلى مجيء هذا الفارس، فقالوا: هذه نافلة كان يصليها صلى الله عليه وسلم، وكان يلتفت ويتطلع إلى الفارس إلى أن أذن الفجر، وصلى سنة الصبح وكان يلتفت، ثم فرغ وقال: (هل أحد منكم رأى فارسنا البارحة؟ قالوا: لا) ، فانتظروا قليلاً، ثم قاموا إلى الصلاة فجاء الفارس، فأخبره الخبر بأنهم جاءوا بإبلهم وغنمهم ونسائهم وأطفالهم، فقال (هل نزلت عن جوادك؟ قال: والله -يا رسول الله! - ما نزلت إلا لأتوضأ أو أصلي، قال: لا عليك أن تفعل فيما بعد) ، يعني: عملك هذه الليلة يكفيك، وليس معنى ذلك أنه يترك العمل بالتكاليف، فقد جاء نظير ذلك في حق عثمان رضي الله تعالى عنه حين جهز جيش العسرة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) ، يعني: هذا العمل يكفيك، فيكفيك من الأجر ما تقر به عينك في الجنة وليس معنى ذلك أنه إذا حصل على ما يكفيه يترك الواجبات فالمهم أنه إن كان ولا بد فيكون الالتفات في النافلة، ولهذا قالوا: يعتفر في أحكام النوافل ما لا يعتفر في أحكام الفرائض.
فهذا ما يتعلق بالالتفات في الصلاة.