وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تحديد الصلاة الوسطى، فـ مالك رحمه الله يقول: هي صلاة الصبح.
وقال بعضهم: كل الصلوات الخمس صالحة لأن تكون الوسطى؛ لأن الوسطية في الصلوات نسبية.
ولكن لو قلنا: الصلوات الخمس صالحة لأن تكون الوسطى فمعناه أن الصلوات الخمس كلها صلوات وسطى، ونحن عندنا الوسطى واحدة فقط كما في هذه الآية؛ لأنه تعالى قال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة:238] ، ثم خص واحدة من تلك الصلوات وجعلها الوسطى.
فـ مالك رحمه الله قال: إنها صلاة الصبح.
والجمهور يقولون: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
فما موجب تخصيص مالك لصلاة الصبح؟ وما موجب تخصيص الجمهور لصلاة العصر؟ أما مالك رحمه الله فإنه نظر إلى شدة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الصبح، وقوله: (لقد هممت أن آمر رجلاً يؤم الناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب، فأحرق على أناس بيوتهم) ، وهم: الذين لم يشهدوا صلاة الصبح.
وأي اهتمام أكثر من هذا، فهو قد هم أن يحرق البيوت على من فيها لأنهم لم يصلوا الصبح، ولكن البيوت فيها النساء، وليست الجماعة واجبة عليهن، والبيوت فيها الصبيان وليست عليهم الفريضة، فكونه يقول: (لقد هممت) والرسول صلى الله عليه وسلم ما يهم بأمر إلا وهو مهتم بشأنه يدل على عظم قدر صلاة الصبح.
قال مالك: هذا الاهتمام أشد ما سمع؛ لأنه في سبيل أن يحرق على الناس بيوتهم، وفيهم من ليس مكلفاً بالصلاة.
وقال أيضاً: صلاة الصبح هي وقت نوم وغفلة، وكثير من الناس قد يغلبه النوم فيها، ويضيع صلاة الصبح، فيكون هذا الحث عليها.
أما الجمهور فقالوا: صلاة العصر وقد جاءت نصوص كثرة تبين ذلك منها: حديث غزوة الأحزاب لما شغلوا بالعدو -ولم تكن قد شرعت صلاة الخوف- حتى دخل الليل، فـ عمر رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والله -يا رسول الله- ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغرب! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله! ما صليتها) ، ثم دعا على المشركين فقال: (ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) ، فالصلاة الوسطى التي شغلوهم عنها هي صلاة العصر، وبعد ذلك صلى المغرب والعشاء، وهما تشتركان في الوقت، فالتي فاتهم وقتها هي صلاة العصر، فسماها صلى الله عليه وسلم بأنها صلاة العصر.
وجاء بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها طلبت من زيد أن يكتب لها مصحفاً، فقالت: إذا وصلت إلى هذه الآية الكريمة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] فآذني -تعني: أعلمني وأخبرني أنك وصلت- فلما وصل أخبرها، فقالت: اكتب: (والصلاة الوسطى صلاة العصر) ، وهذا تفسير منها للآية، وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها حاشاها أن تزيد كلمة في كتاب الله، ولكن كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يجعلون بعض الألفاظ شارحة أو مفسرة لمعنى غامض أو هامٍّ على هامش المصحف، فكتب على هامش المصحف: (الصلاة الوسطى) ؛ لأن الصلاة الوسطى ما جاءت في القراءة، ولا ثبتت قراءة في كتاب الله، لكنها أملتها عليه كأنه من باب الشرح، وتكون في حافة المصحف.
ولهذا أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه لما أتاه من يشتكو إليه اختلاف القراء في القراءات جمع القراء، وجمع الكتاب، وكتب المصحف الإمام، فطلب الصحف التي كانت عند أم المؤمنين حفصة رضي الله تعالى عنها، وهي التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ثم انتقلت من أبي بكر إلى عمر، ثم كانت عند حفصة ابنة عمر رضي الله تعالى عن الجميع، فاستعارها منها لينقل المصحف على رسم واحد، وأمر كل من كان عنده مصحف كتبه لنفسه أن يحرقه، حتى لا يطول الزمن ويدخل ما كان في الهوامش في صلب القرآن، فأحرق الجميع ما كان بأيديهم، واكتفوا بالمصحف الإمام الذي قرئ على عثمان رضي الله تعالى عنه، وأصبح المصحف الذي يرجع إليه العالم الإسلامي، وجعله خمس نسخ، وأرسل كل نسخة إلى مصر من الأمصار ومعها قارئ يقرئ الناس، فأخذوا القرآن سماعاً ووجادة.
فأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أملت على الكاتب أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، ولم ينكر الكاتب، ولم ينكر عليها من سمع بذلك.
فالجمهور على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر؛ لما قاله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، ولقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عند إرادتها كتابة مصحف لها.
وقال الجمهور: إن جميع أوقات الصلاة تأتي عند فراغ الناس إلا العصر، فصلاة الصبح يكون الناس فيها فارغين من الأعمال، وما على الإنسان إلا أن يصلي ثم يرجع لينام كما شاء، وصلاة الظهر تأتي عند القيلولة والناس قد ملوا من العمل وجاؤوا إلى بيوتهم للقيلولة وللغداء والراحة، فهم في فراغ، والمغرب يكون عند انتهاء النهار وأول الليل، فيأوي الناس إلى بيوتهم وهم فارغون، وكذلك في العشاء يكونون في بيوتهم فارغين، فجميع الصلوات الخمس تأتي أوقاتها عند فراغ الناس من العمل إلا العصر، فهي في وقت شدة العمل، أو هي في أوسط أوقات العمل.
وقد جاء عن بعض الصحابة أنه قال: كنا نصلي العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيذهب الذاهب إلى بني عوف فيجدهم يصلون العصر.
قال الشراح: كانوا يؤخرون العصر في المدينة؛ لأنهم أصحاب فلاحة وأعمال، فكانوا يقيلون، فإذا قاموا من القيلولة استأنفوا العمل، فيأتي وقت العصر وهم في وسط عملهم، فإن تركوا العمل في أول وقت الصلاة وصلوا تكون العودة إلى العمل ثقيلة، ولكنهم يتمادون في العمل شيئاً ما حتى يذهب شيء من أول الوقت، ثم يصلون العصر ولا يعودون إلى العمل.
فكان يأتي وقت العصر والناس في شدة عملهم، ولهذا كانوا يشغلون عنها، وكانوا يؤخرونها، وكانت أعمالهم تعوقهم عنها، فجاء التنبيه عليها؛ لأنها في حاجة إلى العناية والرعاية؛ لأن أشغال الناس تكون في وقتها أشد ما تكون.
والله تعالى أعلم.