هنا المؤذن أملك بالأذان، وأمين على الوقت، والإمام أملك بالإقامة، فالإمام هو الذي يرى أن نقيم الصلاة الآن أم ننتظر بعض الناس المتأخرين قد يرى أن نقدم الإقامة إذا كان في المسجد جماعة من النسوة معهن الأطفال، وسمع الصراخ، والصياح أو هناك شيء حدث ويحتاجون إلى أن يعجلوا الصلاة.
إذاً: الإمام الذي يملك أن نقيم الآن أو نتأخر، نتعجل بالإقامة في أول وقتها أو نؤخرها.
ويقولون: إذا اختلف الإمام والمؤذن في الوقت، فقال الإمام للمؤذن: قم فأذن، قال: لا، الوقت ما جاء، هل نأخذ بكلام المؤذن أم بكلام الإمام؟ المؤذن؛ لأن هذا اختصاصه، والإمام ما هو ضابط للوقت كضبط المؤذن، ولو أنهم اتفقوا وأذن المؤذن ثم بعد فترة قال الإمام: يا مؤذن! أقم الصلاة، قال: لا، انتظر، نأخذ بكلام الإمام؛ لأن الإمام أملك بالإقامة، كما أن المؤذن أملك بالوقت، وهذا نسميه توزيع الاختصاص، حتى لو كنا في عمل دنيوي فهناك ذوي اختصاص في جانب من الجوانب، فينبغي أن نقدم من كان اختصاصه في هذا الموضوع ولا نحابي في ذلك.
وفي السنة النبوية: (أعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضكم زيد، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة) وقال لـ ابن العباس: (اللهم! فقهه في الدين، وعلمه التأويل) فإذا اختلفوا في فريضة من الميراث فالمقدم رأي زيد، بالرغم أن فيهم أبو بكر وعمر، وهم أفضل منه، لكن هو مختص بذلك، وكذلك لو اختلفوا وتنازعوا في حلال أو حرام فرأي معاذ مرجح.
ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني المسجد النبوي البناية الثانية، وكان ذلك بعد عودته من خيبر، وكان المسجد الأول (60×70) ذراعاً، وكان من جذوع النخل كما تعلمون، وكثر الناس، فأراد أن يوسع المسجد إلى أن صار (100×100) ، وكان هناك رجل من بني حنيفة وفد إلى المدينة، فرأى رجلاً من الأنصار يخلط الطين بالتبن، فلم يعجبه عمله فقال: أرني وأخذ منه المسحاة، وأخذ يخلط الطين، والرسول صلى الله عليه وسلم ينظر فقال: دعه لهذا العمل فإنه أعرف به منك، وهذا إسناد العمل للمختص فيه.
فلو جاءنا مهندس معماري وعنده مشروع زراعي، وعنده رجل خبير في الزراعة بدون دراسة، فهل يقدم المهندس المعماري أو الفلاح الخبير المجرب عشرين أو ثلاثين سنة؟ الفلاح الذي اكتسب الخبرة والتجارب، وكذلك العكس لو عنده مشروع معماري، وجاءنا مهندس زراعي، وجاء معلم من المعلمين العاديين واختلفوا، وكل له وجهة نظر فمن نقدم؟ نقدم المعلم الذي له تجارب عشرين ثلاثين أربعين سنة في البنيان، وهذا مهندس زراعي تخصصه في الزراعة.
إذاً: توزيع الاختصاصات من صميم الإسلام، كذلك التخصص في مادة دنيوياً أو أخروياً إلا أن تخصص المادة العلمية اليوم فيه جوانب سلبية، فالطالب درس الابتدائي والمتوسطة والثانوي على قدر في العلوم، وجاء إلى الكلية ودرس منهج الكلية، والكلية قد تكون نظرية كالجامعة الإسلامية، لأن دروسها كلها نظرية، وليست عملية، وقد تكون عملية، مثل: كلية هندسة، كلية طب، مكنيكا، كهرباء، فهذه أشياء عملية، فهو يدرس ويطبق بالعمل، فإذا كانت هذه الحالة، ودرس المنهج العام ثم أراد أن يتخصص في فن من الفنون أو علم من العلوم ففي الجامعة الإسلامية -مثلاً- كلية الشريعة، فيها أصول وفقه وتفسير وحديث ومصطلح، فأراد أن يتخصص في مادة من تلك المواد الرئيسية بخلاف المواد الفرعية.
مثل: النحو والصرف والبلاغة، فهي في كلية الشريعة فرعية وليست أصلية، ولا يقبل من خريج الشريعة أن يتخصص في اللغة؛ لأن اللغة أساسية في كلية اللغة، وأما الحديث والتوحيد والتفسير فهي علوم فرعية في كلية اللغة، وهكذا.
إذاً: لكل كلية منهجها ودروسها الأساسية والتكميلية، فإذا كان الطالب في كلية الشريعة وأراد الماجستير في أصول الفقه فهذا من حقه، والناحية السلبية هي أن يكرس جهده كله في أصول الفقه ويكون ذلك على حساب المواد الأخرى من فقه وحديث وتفسير، فلا يكون مبرزاً في بقية المواد كما هو مبرز في مادة الأصول، وهذه ناحية سلبية بالنسبة للمواد الأخرى، وحينما كان عدد الطلاب محدوداً كان يتعين على كل متخرج أن يكون مبرزاً في جميع المواد التي في الكلية، ولما كثر المتخرجون وازداد العدد فلا مانع أن نخصص هذا في الأصول، ونخصص هذا في الفقه، ونخصص هذا في الحديث، ومن مجموع المتخصصين يكون عندنا منهج تخصصي في مواد الكلية كلها.
وينبغي على الطالب في ذاته إن اختار مادة يتخصص فيها ألا يغفل، بقية المواد؛ لأنه كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: العلوم أقران.
فالأصولي لا يستغني عن الفقه للتشبيه والتمثيل والبيان، والفقيه لا يستغني عن أصول الفقه ليبني ويستنبط على أصول الأحكام، وكل منهما لا يستغني عن الحديث؛ لأنه مرجع لاستنباط الأحكام، وكذلك التفسير.
إذاً: المؤذن أملك بالوقت، والإمام أملك بالإقامة، وهذا من توزيع الاختصاصات، فكل في حده، وكل في مجاله، والله تعالى أعلم.