[وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الفجر فجران: فجر يُحرم الطعام، وتحل فيه الصلاة، وفجر تحرم فيه الصلاة -أي صلاة الصبح- ويحل فيه الطعام) رواه ابن خزيمة والحاكم وصححاه] .
ساق المؤلف رحمه الله تعالى في باب المواقيت حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الفجر فجران) ، وقد تقدم بيان وقت صلاة الصبح، وأنه حينما ينفجر النهار من الليل، وتقدم حكم من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس.
وهنا يبيّن المؤلف حقيقة الفجر الذي بطلوعه يدخل وقت الصلاة، ولما كان الفجر كلمة مشتركة بين مسميين؛ بيّن النبي صلى الله عليه وسلم كلاً منهما وحكمه، فقال: (الفجر فجران: فجر يحرم الطعام، ويحل الصلاة) أي: يحرم الطعام على الصائم، ويُحل الصلاة، أي: صلاة الصبح، (وفجر يحل الطعام ويحرم الصلاة) أي: صلاة فجر ذلك اليوم، بخلاف صلاة الليل أو الوتر أو نحو ذلك، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم الفرق بين الفجرين بعلامة حسية لكل منهما، فأما الفجر الذي يُحل الطعام، ولا يُحل الصلاة فإنه يذهب مستطيراً في الأفق كذنب السرحان، والسرحان هو الذئب، وهذا الفجر يأتي قبل نهاية الليل، ويكون كالعمود الأبيض ممتداً من الأرض إلى السماء.
وأما الفجر الثاني فبينه صلى الله عليه وسلم بكونه مستطيلاً كجناحي الطير، وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم وضع أصبعيه المسبحتين من اليمنى واليسرى بحذاء بعض ثم مد يديه يميناً ويساراً، والمسبحة هي التي تلي الإبهام، فقرن صلى الله عليه وسلم بين أصبعيه ثم مد يديه، وهكذا يكون الفجر الذي تجوز فيه الصلاة، ويحرم فيه الطعام على الصائم، فهو يمتد في الأفق يميناً ويساراً، أما الأول فإنه يمتد من الأرض إلى السماء كالعمود، والفجر الأول يسميه الناس: الفجر الكاذب، ومعنى ذلك: أنه ليس فجراً حقيقاً يتوقف عليه الصوم والصلاة.
قال الفخر الرازي في تفسيره: إن هذا الفجر الأول من أعظم الدلائل على قدرة الله، فإنه إيجاد موجود بلا سبب، وذلك أن الفجر الثاني عندما ينتشر في الأفق إنما هو أثر من آثار اقتراب الشمس منا، فإذا اقتربت الشمس منا انفجر الضوء من الظلام، وهو المعبر عنه في آية الصوم بالخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، قال: فهذا الفجر الثاني مسبب عن سبب وهو ضوء الشمس، وكلما اقتربت الشمس منا كلما اشتد النور إلى أن تشرق الشمس على وجه الأرض، فالفجر الثاني مسبب عن سبب وهو الشمس، أما الفجر الأول فلا نعلم له سبباً! فهو موجود بإيجاد الله له بدون أي سبب، وبدون أن يتوقف على شيء ينشأ عنه.
ولو تأملنا لوجدنا أشياء عديدة أنشأها الله سبحانه وتعالى بلا سبب، مثل حور الجنة، يقول سبحانه: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35] ، فلم تكن لهن ولادة، ولم يكن هناك مبدأ آدم وحواء، ولكن الله سبحانه أنشأ الحور العين أكرمنا الله وإياكم بهن في الجنة.
وينشئ أيضاً الولدان، وكذلك غرس الجنة ونعيمها وثمارها وأنهارها دون أن تكون متسببة عن غيرها، فأنهار الدنيا متسببة عن أمطار، فماء المطر ينزل من السماء فيجري ودياناً وأنهاراً، وكذلك حليب الدنيا وعسل الدنيا وغير ذلك، أما حليب الجنة وماء الجنة وعسل الجنة وخمر الجنة؛ فكل هذه ينشئها الله سبحانه دون سبب، وقد علمنا بانعدام جزء السبب لا كامل السبب في بعض أمور الدنيا، فخلق الله آدم من تراب، فخلط هذا التراب بماء فصار منه بشراً سوياً، بلا أب ولا أم، ثم خلق منه حواء، فهي امرأة جاءت من أب بلا أم، وأما عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإنه رجل من امرأة بلا أب، وسائر البشر من أب وأم، وهي سنة الله في خلقه، قال الله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] .
إذاً: هذا الفجر الأول -كما أشار إليه هذا الإمام- آية وعلامة تحدث كل يوم، تدل على قدرة الله في إيجاد مسببات بلا أسباب، والذي يهمنا في الفقه أن هذا الفجر الأول لا يمنع الصائم من الطعام، ولا يُبيح للمصلي صلاة الصبح، ثم يأتي الفجر الثاني وهو على العكس من ذلك، يُحرم الطعام على الصائم، ويبيح الصلاة للمصلي، وبيّن صلى الله عليه وسلم الفرق بينهما بأن الأول يمتد كذنب السرحان وهو الذئب، والثاني ينتشر في الأفق كجناحي الطير، والله تعالى أعلم.
[وللحاكم من حديث جابر نحوه، وزاد في الذي يُحرم الطعام: (إنه يذهب مستطيلاً في الأفق) ، وفي الآخر: (إنه كذنب السرحان) ] .
وهذا من البيان العملي لربط الأحكام بالمظاهر المعروفة للجميع، فصفة الفجر الأول أنه يذهب مستطيراً كذنب السرحان، وما أظن واحداً من العرب يجهل معنى السرحان، وصفة الفجر الثاني أنه يكون كجناحي الطير في الأفق، وذلك يكون في نهاية الليل وأول النهار.