إذاً: من لم يتحر غروبها، وصلى بعد العصر والشمس بيضاء نقية، فإنه لم يتحر الصلاة عند غروبها، ولم تحصل منه المشابهة للكافرين، وقد أخذ بهذا المذهب الوسط ابن عمر وعائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما وغيرهما من الصحابة، فجوزوا الصلاة بعد العصر في أول الوقت قبل أن تتغير الشمس، وجوزوا الصلاة بعد الصبح في أول الوقت قبل بزوغ الشمس.
واستدلوا بما أسلفنا، وبصلاة النبي عليه الصلاة والسلام بعد العصر ركعتين، وكان قد شغل عن ركعتي سنة الظهر بسبب وفد عبد القيس، ثم داوم عليهما، فكانتا قضاءً في أول الأمر، وبعد ذلك لم يصلهما قضاء.
وقد قيل: إن هذا خاص برسول الله؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلاً داوم عليه، فهذا من خصوصياته، وقد قالت له أم سلمة: (أفنقضيهما إن فاتتا؟ فقال: لا) ، وهو إذا فعل شيئاً ثم نهى عنه فإنه من خصوصياته، كما جاء في الوصال في الصوم، فإنه نهاهم عن الوصال فقالوا: إنك تواصل، فقال: (لست كهيئتكم) ، ثم واصل بهم إلى يومين، وفي اليوم الثالث رءوا الهلال وقال: (لو لم نر الهلال لزدتكم) ، قال الراوي: كالمنكل بهم؛ لأنهم ما امتثلوا في أول الأمر.
وعلى هذا قالوا: صلى النبي عليه الصلاة والسلام الركعتين قضاء، ثم داوم عليهما بعد ذلك، وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، فكان إذا بدأ عبادة داوم عليها، فنقول للشافعية: ليس لكم حق في قياس ذوات الأسباب في الوقت المنهي عنه بصلاة النبي عليه الصلاة والسلام بعد العصر؛ لأن صلاته في ذلك الوقت من خصوصياته.
واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي بعد الصبح، فقال له: (ألم تصل الصبح معنا؟ قال: بلى يا رسول الله! ولكني لم أكن صليت ركعتي سنة الصبح فصليتهما الآن، فسكت عنه) ، والنبي عليه الصلاة والسلام إذا سكت عن فعل فقد رضيه، فأجاز قضاء سنة الفجر، وهما ذاتا سبب، قالوا: فنحن كذلك نصلي ذات السبب بعد الصبح، فأجاب الجمهور بقولهم: هذه قضية عين ونخصها بعينها، ونقول: كل من فاتته سنة الصبح فهو بالخيار: إن شاء صلاها بعد الصبح، وإن شاء أخرها إلى ما بعد طلوع الشمس، ولا نقيس عليها غيرها كتحية المسجد وما شاكلها.
أيها الإخوة: هذه المسألة طويلة الذيل، وكثيرة التفريع، وابن عبد البر في الاستذكار أطال النقل والكلام فيها إلى حد بعيد، ثم جاء أخيراً بقضية الصوم ويوم العيد في خاتمة البحث، ورجح ما ذهب إليه الجمهور أنه لا صلاة شاملة عامة في جميع أنواع الصلوات إلا ما أخرجه الدليل، والدليل أخرج ما يلي: ركعتا الطواف في مكة، وقضاء الفوائت، وكذلك صلاة الجنازة بلا خلاف، وقالوا: تجوز صلاة الجنازة عند قيام قائم الظهيرة، وعند الغروب، وعند الشروق إذا خيف على الجنازة أن تتغير، فحينئذٍ يجوز الدفن في ذلك الوقت، مراعاة لكرامة الإنسان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأرجو من الله أن تكون هذه المسألة قد ظهرت لكم ولو بقدر خمسين في المائة، ونحن راضون فيها بهذا، وغيرها من المسائل نريد ظهورها لكم تسعين في المائة، لكن هذه المسألة يكفينا منكم خمسين في المائة.
[والحكم الثاني عند الشافعي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف وزاد: (إلا يوم الجمعة) ، وكذا لـ أبي داود عن أبي قتادة نحوه] .
يوم الجمعة استثناه الجمهور من عموم النهي عن الصلاة عند قائم الظهيرة، لا عند الشروق ولا عند الغروب، وأما مالك فإنه عمم جواز الصلاة عند قائم الظهيرة في غير الجمعة مع أنه يكره ذلك فقال: لا أمنع ولا أكره.