قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ما دام كل من الطرفين عنده نص يعمل به، ويخصص به عموم الآخر، وكل منهما له حق أن يخصص عموم الآخر؛ لأن الحديثين صحيحان، فينبغي أن نطلب مرجحاً لأحد الحديثين من الخارج، أي: اتركوا الحديثين في مكانهما، واتركوا اللوحتين المعلقتين، وابحثوا عن مرجح لأحد الجانبين.
فالشافعية قالوا: حديث: (لا صلاة بعد العصر) لم يبق على عمومه، فقد خرجت منه بعض الأشياء، فمن نام عن الصلاة أو نسيها، ثم تذكر الصلاة الفائتة بعد العصر فإنه يصليها بعد العصر، فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يستثنى منه صلاة قضاء الفائتة عند الجميع، فهذا العموم بعد أن كان مائة في المائة أصبح تسعين في المائة، وإذا طاف بالبيت بعد العصر ثم أراد أن يصلي، فالجمهور يسمحون له أن يصلي ركعتي الطواف، وهذا أيضاً يضعف العموم، فكأن العموم حزمة تراخت قليلاً.
فقال الشافعية: إذا كان عمومكم أخذ يخرج منه بعض الأفراد، فنحن أيضاً نخرج ذات السبب، فيكون النهي متوجهاً للصلاة التي لا سبب لها، فلو أن إنساناً صلى العصر وجلس في مصلاه، وبعد أن صلى العصر قام ليصلي فنقول له: لا تصل؛ لأنها صلاة لا سبب لها، ونوافقكم في النهي عن تلك الصلاة؛ لأنها لا سبب لها، لكن التي لها سبب، والإنسان يطالب بأدائها، فنحن نخرجها من عموم الوقت المنهي عن الصلاة فيه، كما أخرجتم أنتم بعض الصلوات الداخلة في عموم قوله: (لا صلاة) قال الجمهور: تلك الصلوات التي خرجت من العموم خرجت بنص مستقل، وما خرج بنص مستقل لا يعترض به على العموم؛ لأن قضاء الصلاة لمن نام عنها أو نسيها قد جاءت مشروعيته في حديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها) ، فهذا النص أخرجها من العموم، وكذلك سنة ركعتي الطواف خرجت بنص مستقل.
وقد قال الشوكاني في بحث هذه القضية: إذا خرج بعض أفراد العام من عمومه فإنه لا يقدح عمومه، فهذا عام، ولكن أخرّجنا منه البعض بنص، فيبقى الباقي على عمومه، فلو قلت لشخص: هؤلاء عشرة أشخاص، فأعط كل واحد منهم درهماً يوم السبت، ثم جئته يوم الجمعة وقلت: لا تعط فلاناً وفلاناً، فمن العموم المتقدم تعطي كل واحد من الثمانية الباقين درهماً درهماً، فهل بقي لهم حق في الدرهم أو خرجوا من العموم؟ بقي لهم حق، ولفظ العموم باق عليهم، فهم داخلون في العموم المتقدم، ولذا يقول الشوكاني: خروج بعض أفراد العام لا يقدح في عمومه؛ لأن حكم العموم يبقى لمن بقي بعد الخاص الذي أخرج.
الشافعي رحمه الله يقول: إن ذوات الأسباب ليست داخلة في النهي، والآخرون يقولون: إنها داخلة مع غيرها، ولا نخرج من هذا العموم إلا ما أخرجه نص مستقل.
ثم لا يزال التعارض قائماً؛ لأنه لو خرج بعض الأفراد وبقي العام على عمومه، فالباقي من العموم متعارض مع عموم الأمر بتحية المسجد، فنطلب دليلاً خارجياً لا من عند الشافعية، ولا من عند الجمهور، وهو القاعدة المشهورة عند الأصوليين: إذا تعارض أمر ونهي فإنه يقدم النهي.
وابن عبد البر أتى بدليل عجيب قوى به حجة الجمهور، وهو قوله تعالى في صوم رمضان: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فالأيام الأخر هذه هي ثلاثمائة وثلاثون يوماً، وهي ما عدا شهر رمضان، لكن جاء النهي عن صوم يومي العيدين، فهل يجوز لإنسان أن يصوم يوم العيد لقضاء رمضان؟ لا يجوز، فإن قيل: أليس يوم العيد داخلاً في الأيام الأخر؟ نقول: يوما العيدين هما من ضمن الأيام الأخر، لكن جاء النهي عن صومهما خاصة، فهنا قدم النهي على الأمر؛ لأن الأمر هنا هو القضاء في عدة من أيام أخر، ولكن ثبت النهي عن صوم يومي العيد، وهما من ضمن الأيام الأخر، فنقدم جانب النهي، ولا نقول: العيدان من الأيام الأخر، فيصح فيهما القضاء! ولكن نقول: الأيام الأخر عامة، والعيدان من ضمنها، ولكنهما خرجا بنص خاص يحرم صومهما.
قالوا: إذا كان الأمر دائراً بين جانب يطلب فعلاً وجانب ينهى عن فعل، فأي الجانبين نقدم؟ وأيهما أقوى في الطاعة والامتثال؟ القاعدة العامة عند العقلاء أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وكذلك المنهي عنه شرعاً مقدم على المأمور به شرعاً، خاصة إذا كان المأمور به ليس فرضاً واجباً، ولا فرضاً كفائياً كصلاة الجنازة، وقد جاء في الحديث الصحيح: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) ولم يقل: فاجتنبوه ما استطعتم؛ لأن الترك ليس فيه استطاعة أو عدم استطاعة، فهو أمر سلبي، بل اتركوه كله.
إذاً: جانب النهي أقوى في المعادلة من جانب الطلب، خاصة إذا لم يكن فرضاً عينياً ولا كفائياً، وتحية المسجد هل هي فرض أو نافلة؟ نافلة بإجماع المسلمين، حتى ابن حزم نص على ذلك، ومن قال بوجوبها فقد أوجب ست صلوات! والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة) .