مسألة: لو أن إنساناً بعد ما صلى الفريضة في مكانه تذكر صلاة فائتة عليه، نسيها بالأمس وأراد أن يقضيها الآن، فهل يصليها بتيمم الفريضة التي صلاها الآن أم يتيمم لها؟ قالوا: يتيمم لها؛ لأنه لا يصلى بتيمم واحد إلا صلاة واحدة، وهناك تفريعات على هذه المسائل في هذا الأثر وغيره، فهم مجمعون على أن النية في التيمم ركن، وكذلك في الوضوء، إلا الإمام أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: النية ليست شرطاً في الوضوء؛ لأن الوضوء نظافة، أمر معقول المعنى، فكيفما غسلت أعضاء وضوئك تم الوضوء، والجمهور يقولون: الوضوء عبادة، والعبادة لابد فيها من النية: (إنما الأعمال بالنيات) ؛ لأنك قد تغسل أطرافك، وقد تغتسل ولم تنو طهارة، وقد تتبرد من الحر.
إذاً: يمكن غسل الأعضاء والجسم بدون إرادة الطهارة، والنية هي التي تميز بين الطهارة والعادة، والنافلة والفريضة، ففي صلاة الصبح السنة ركعتان، والفريضة ركعتان، وما الذي يفرق بينهما؟ النية هي التي تعين النافلة من الفريضة، وإن اختلفت الصورة، ففي الفريضة يجهر بالقراءة، وفي النافلة يسر بها، لكن عدد الركعات سواء، فالنية هي التي فرقت.
إنسان عليه قضاء من رمضان، وجاء يوم الإثنين، وأراد أن يصوم، فصام يوم الإثنين على أنه نافلة ونسي القضاء الذي كان عليه، فهل يجزئ صومه بنية يوم الإثنين عن القضاء الذي عليه سابقاً؟ لا يجزئ.
إذاً: إذا اتحدت صورة العمل بين الفرض والنافلة، وبين العبادة والعادة، فالذي يفرق في ذلك هو النية، فالأئمة الثلاثة قالوا: النية فرض في الوضوء والغسل والعبادات، والإمام أبو حنيفة رحمه الله قال: إنما هي أعمال معقودة المعنى بالنظافة، فإذا حصلت ولو لم ينو أجزأت.
لكن التيمم حتى عند الإمام أبي حنيفة تتعين فيه النية؛ لأنه ليس نظافة، وليس تبرداً كما في الوضوء، فقال: تتعين النية في التيمم، وتكون النية للصلاة، والنية للطواف، والنية لقراءة القرآن، والنية لحمل المصحف، والنية للمكث في المسجد، كل هذه من الأمور التي يشرع لها الطهارة، فهناك من يعتبر قاعدة: (إذا نوى الأعلى جاز له به الأدنى، وإذا نوى الأدنى لا يصح له به الأعلى) ، فإذا بحث عن الماء فلم يجد ماء، ويريد أن يقرأ في المصحف، فتيمم لمس المصحف، فهل يطوف بهذا التيمم؟ وأيهما أقوى في مشروعية الطهارة الطواف أم مس المصحف؟ لاشك أن الطواف أقوى؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، والطهارة لصلاة النافلة أقوى من الطهارة لمس المصحف؛ لأن الصلاة منصوص عليها، وإذا أراد أن يصلي الفريضة في الوقت، قالوا: إن نوى الظهر مثلاً جاز له ما كان دون الفريضة بنوافلها، كمس المصحف، والطواف بالبيت، والمكث في المسجد، والصلاة على الجنائز؛ لأنها في مرتبة أدنى من مرتبة الفريضة في الطهارة، أما إذا تيمم لما هو أقل كما ذكر مالك، كأن تيمم وصلى ركعتي الفجر، فركعتا الفجر أقل من الفريضة، فلا يصلي بهذا التيمم الفريضة، وعليه أن يتيمم للفريضة؛ لأنها أقوى من النافلة، وإذا تيمم للطواف فلا يصلي به الفريضة؛ لأن الفريضة أقوى من الطواف وهكذا.
إذاً: لابد من النية في التيمم، وهل تكون النية برفع الحدث أو باستباحة الصلاة؟ من اعتبره وضوءاً فيكون عنده بنية رفع الحدث، ومن لم يعتبره وضوءاً فينوي به استباحة الصلاة، ولذا يقول صاحب المغني: من تيمم بنية رفع الحدث فإن التيمم باطل؛ لأنه لا يرفع الحدث؛ فـ أحمد عنده التيمم لا يرفع الحدث.
إذاً: ينوي في التيمم استباحة ما يتيمم من أجله، كأن يستبيح به الطواف، أو مس المصحف، أو المكث في المسجد، أو الصلاة على جنازة، هذه كما قيل رخصة يستبيح بها هذا العمل الممتنع عنها بدون طهارة، إذاً لا ينوي بتيممه رفع الحدث؛ لأن الحدث باقٍ.
ووجدنا الإمام أبا حنيفة رحمه الله يعتبر التيمم والوضوء سواء، يفعل بهذا ما يفعل بذاك، ولا ينتقض التيمم إلا بنواقض الوضوء أو وجود الماء.
ووجدنا مالكاً رحمه الله يقول: إنما التيمم مبيح لفريضة وقتها، ونافلتها التي بعدها، أما التي قبلها فلا.
ووجدنا الشافعي رحمه الله يزيد على مالك: النافلة التي قبلها.
وبالله التوفيق، والله أعلم.