قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء فقال: إن الله يثني عليكم.
فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء) رواه البزار بسند ضعيف، وأصله في أبي داود، وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بدون ذكر الحجارة] .
هذا الحديث -يا إخوان- يأخذ حيزاً كبيراً، والأصل فيه قوله سبحانه وتعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] والواقع أن تناول هذه الآية يرتبط بما قبلها فيما يتعلق بمسجد الضرار؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين فقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] بخلاف مسجد الضرار فإنه أسس ليكون مأوى للذين يحاربون الله ورسوله، فهنا كانت مقارنة.
وقد جاء في قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] (أنه تشاحَّ رجلان قال أحدهما: هو مسجد قباء.
وقال الآخر: هو مسجد رسول الله.
فأتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ من حصباء الأرض وضرب بها أرض المسجد، فقال: مسجدكم هذا، مسجدكم هذا (ثلاث مرات)) وهذه الآية نزلت في قباء قطعاً؛ لأنها في مقابلة مسجد الضرار، وبين سبحانه وتعالى أنه: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيه} [التوبة:108] فلما ذكر سبحانه مسجد الضرار، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم فيه أبداً، وجاء بالمسجد الآخر وقال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] فهو المراد بذلك.
وقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] هذه الأولية هل هي أولية زمنية أم أولية أفضلية؟ إن كانت أولية الزمنية فمسجد قباء بني قبل هذا المسجد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بناه قبل أن يصل إلى المدينة، وقبل أن يشرع في بناء هذا المسجد، وإن كان من الأولولية والأفضلية فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والواقع الذي ترتضيه العقول والنصوص أن المقارنة تصلح لكل مسجد على وجه الأرض أسس من أول يوم على تقوى، لأن هناك مساجد تقام للرياء والسمعة، كمن يبني مسجداً ليجعل له ضريحاً فيه، يكون المسجد وسيلة إلى أن يدفن في هذا المسجد، وكمن يبني مسجداً لأجل أن يغتصب الأرض، وقد تكون هناك عوامل أخرى، فمعنى: {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] : أنه ليس هناك دخل، وليس هناك غبن، وليس هناك غش ولا غرض آخر، فهو أحق من أن يقوم الإنسان في مسجد فيه شبهة أو تهمة مما يتجنب أمره، فهي عامة.
إذاً على هذا: سبب النزول -كما يقول علماء الأصول- قطعي الدخول في النص، وسبب النزول هو مسجد قباء، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم وسألهم: (إن الله يثني عليكم -أي: في الطهارة- ماذا تفعلون؟) هناك تأتي بعض الروايات: (إنا نستنجي بالماء) وهناك الرواية المشهورة: (إنا نتبع الماء الحجارة) يعني: نستجمر بالحجارة أولاً ثم نغسل ونستنجي بالماء بعد ذلك، إذاً هذا هو السبب.
ولهذا قال العلماء: أيها أفضل: الاستجمار فقط بالحجارة أم الغسل بالماء فقط، أم الجمع بينهما؟ واتفقوا على أن الجمع بينهما أفضل.
وبعض العلماء يقول: لم ينقل لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الحجارة والماء، ففي قضية تبوك حديث المغيرة: (ائتني بثلاثة أحجار) وحديث ابن مسعود: (فأتيته بحجرين وروثة) وحديث المغيرة: (ثم جاء فصببت على يديه فتوضأ) وكانت الإداوة مع المغيرة فقالوا: الرسول لم يجمع بين الحجارة والماء في حديث عرفناه.
والآخرون استدلوا بقوله: (إن الله يثني عليكم) فبينوا السبب في ثنائه عليهم ما هو، فقالوا: (نتبع الماء الحجارة) ولا شك أن استعمال طهورين أولى من استعمال طهور واحد، ولا شك أن الماء ينقي.
وقد قيل لبعض السلف: تستنجي بالماء؟ قال: إذاً تظل يدي منتنة؛ لأنه يباشر النجوى باليد في غسل الماء، وأما استعمال الحجارة فإن اليد لا تباشر النجاسة، فكان البعض يكره استعمال الماء؛ لأنه يباشر النجاسة بيده عند الغسل.
والبعض يقول: هذه طهارة، وينبغي استعمالها، واتفقوا على أن الجمع بين الطهورين أفضل، فيستجمر بالحجارة ولا يباشر النجوى بيده، ثم يغسل بالماء ما أبقت الحجارة في ذلك المحل، وهذا أخذاً من هذا الحديث: (إنا نتبع الماء الحجارة) يعني: نستعمل الحجارة أولاً بالاستجمار، ثم نتبع الاستجمار بالغسل بالماء، فنجمع بين الأمرين.
والله تعالى أعلم.