الجانب الثاني من هذا الحديث: بعد صحة الوصية من المريض في مرض موته، تأني قضية انتفاع الميت بعمل الحي؛ لأنه قال: (أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) ، فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم للولد أن يتصدق عن أمه، ويؤيد هذا الحديث؛ الحديث الآخر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: -ومنهم- ولد صالح يدعو له) ، وجاء في الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: (إن خير ما أكل الرجل من كسبه أو من عمله وإن ولد الرجل من كسبه) أي: أن كسب الولد ينسب لأبيه كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) ، وقد تقدمت الإشارة والتنبيه إلى أن هناك بعض النصوص ظاهرها التعارض مع هذا مثل قوله سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، وهذه التي افتلتت نفسها قد انتهت عند سعيها السابق قبل افتلات النفس، وهنا السؤال هل ينفعها عمل ولدها بعد أن انتقلت إلى مولاها؟ فقال: نعم، ينفعها، وجاءت أحاديث أخرى منها: أن العاص بن وائل أوصى في الجاهلية أن يعتق عنه مائة بدنة، فقام أحد أبنائه وأعتق خمسين في الجاهلية، وأسلم بعض أبنائه فسأل رسول الله: (أفأعتق عنه؟ فقال: لو كان مسلماً فأعتقت عنه لنفعه ذلك) .
إذاً: العمل من الولد للوالد بإجماع المسلمين، وقد تقدم تقسيم العلماء الأعمال الخيرة التي يرجوها الإنسان لغيره أو يعملها ويهبها لغيره وقالوا: إن أعمال القرب تنقسم إلى قسمين: قسم بدني محض: كالصلاة، والصيام، والدعاء، وتلاوة القرآن.
وقسم مالي محض: كسداد الديون، والصدقة عنه، وأداء الكفارات.
وهناك قسم ثالث يجمع بين الأمرين: كالحج ففيه نفقة، وفيه حركة البدن فهو حل وارتحال، فأجمعوا: على أن كل قربة مالية من الولد لوالده أنها تصله وينتفع بها، ثم وسعوا الدائرة وقالوا: كل صدقة مالية من أي مسلم لمسلم آخر تنفعه ولو لم يكن ولده، كما جاء في قضية شبرمة، عند أن قال رجل: لبيك اللهم! عن شبرمة فقال له صلى الله عليه وسلم: (ومن يكون؟ قال: أخ لي، أو صديق لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) ولم يقل له: لست بولد له، أو لا تنفعه حجتك عنه، بل أقره على ذلك، وكذلك فعله صلى الله عليه وسلم عن خديجة فقد كان يتصدق عنها بعد ما هاجر إلى المدينة، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها ربما أثارتها الغيرة لكثرة ما وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصدق عن خديجة.
وأما القسم البدني المحض، فممن ذكر هذا المبحث الإمام ابن تيمية رحمه الله وهذا المبحث موجود في عدد من صفحات كتاب المجموع، وذكر: أن الصحيح أن عمل الإنسان البدني للميت ينفعه وذكر فرداً فرداً عن الصلاة، واستدل بحديث الرجل الذي جاء وقال: (كنت أبر أبي في حياته فكيف أبره بعد موته؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: تصلي له مع صلاتك وتدعو له مع دعائك) فقال: هذه صلاة من الولد للوالد، فله أن يصلي ركعتين ويقول: أجرها وثوابها لوالدي.
ومثل هذا أيضاً: ركعتي الطواف في الحج، وإن كانت تبعاً لكنها صلاة أجزأت عن ميت، وكذلك الصوم قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) ، ثم قال: بقي بعد ذلك الدعاء وتلاوة القرآن قال: والدعاء هو كما جاء في الشرع تكليف للأمة بكاملها، والدعاء للميت قد جاء في عمل من جحده فقد كفر وهو الصلاة على الجنازة، فإننا في التكبيرة الثالثة ندعو للميت بما يسر الله سبحانه وتعالى، فقال: هذا عمل مشروع وهو من حق الميت على الحي، وهو فرض كفائي، ثم بعد ذلك له أن يدعو له بظهر الغيب، وكذلك الاستغفار، ثم بحث المسألة من الجانب العقلي، وقرر ثبوت ذلك وجوازه.
وهنا قال: (وأظنها -أي: ظن يقين- لو تكلمت تصدقت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) .
والغرض من إيراد هذا الحديث هنا هو بيان صحة الوصية في مرض الموت، هذا مع أن المريض مرض الموت لا يحق له أن يتصرف في ماله؛ لأن المال أصبح مال الورثة، كما قال الصديق رضي الله تعالى عنه لأم المؤمنين عائشة: (والله! يا ابنتي! ما أحد أحب إلي غناً منك، ولا أحد أعز علي فقراً منك، وقد كنت نحلتك جذاد خمسين وسقاً، فلو كنت حزتيه لأخذتيه، ولكنه الآن مال وارث) ؛ لأنه أحس في مرضه هذا الذي هو فيه أنه مرض الموت.
فإذا وصل الإنسان إلى مرض الموت وتأكد الأمر في ذلك فليس له حق التصرف في ماله، وكذلك في الحالات التي هي مظنة الوفاة كالمرأة في حالة النفاس، لا يحق لها أن تتصرف في مالها، وكذلك الرجل إذا وقف بين الصفين في القتال؛ لأن نفاس المرأة مظنة الوفاة، لما تجد من معاناة وشدة، وكذلك الإنسان إذا كان في أرض المعركة أمام العدو فإنه يحتمل إحدى الحسنيين، فهذه الأحوال أو تلك الحالات تمنع الإنسان من أن يتصرف في ماله، إلا إذا كانت وصية وفي حدود الثلث على ما تقدم وعلى ما سيأتي إن شاء الله.