من أوصى بأكثر من ثلث ماله نظرنا فإن كان لأجنبي سألنا الورثة: أتجيزون الزائد عن الثلث أم تسترجعونه؟ فإن قالوا: أجزنا وصية ميتنا، قلنا: على بركة الله، وإن قالوا: لا نجيزها، رد الزائد عن الثلث، وإن قال البعض: نجيز والبعض قالوا: لا نجيز، رددناها في حق من لم يجز وأجزناها في حق من أجاز.
وهنا قد يحصل فعل الخير؛ لأن الإنسان عند موته يزهد في الدنيا بكاملها، حتى في أهله وأولاده، وينظر إلى ما بعد الموت، ويريد أن يقدم كل ما يمكن أن يستطيعه لآخرته، فهو تحت تأثير الرغبة والرهبة: الرهبة فيما هو مستقبل أمامه، والرغبة فيما عند الله من الأجر، فهل نتركه تحت تأثير الرغبة والرهبة أو ننصحه؟ الجواب: ننصحه، ونبين له الصواب، ونخرجه من تحت وطأة هذا التأثر، وفي قضية الشخصين الذين اختصما في مواريث بينهما قال لهما صلى الله عليه وسلم: (إنكما تحتكمان إليّ وأنا بشر فأقضي لبعضكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقتطع له قطعه من النار) ، فكل منهما قال: حقي لصاحبي، لا أريد شيئاً، فما الدافع الذي جعله يقول: حقي لصاحبي، وهو يتخاصم معه ويقول: أريد حقي منه، والآن يقول حقي لصاحبي! ما الدافع لذلك؟ الجواب: الخوف من النار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقطع له قطعة من النار) .
إذاً: كل واحد منهما وقع تحت تأثير الخوف من النار، فهل قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا وائتوا بالمال نفرقه على المساكين؟ لم يقل لهما ذلك، وإنما قال: (أما وقد قلتما ذلك فارجعا فاقتسما وتحريا في القسمة، واستهما وليبح كل منكما صاحبه) .
وماذا بعد هذا من الاحتياطات؟! قال: (اقتسما وتحريا القسمة) ، أي: لا تتساهلا، ولا تقولا: نحن متسامحان، بل تحريا؛ لأن -كما يقولون- بعد السكر صحوة، فأنتما الآن تحت تأثير الخوف من النار قد تتسامحان، وبعد هذه المدة تنسيان النار ويطالع كل منكما في نصيبه مع الآخر، فإن كانا قد تحريا في القسمة قال: لا، مالي شيء عنده، وإن كانا قد تساهلا، قال: نعم، والله! لقد تساهلت معه، فالفرس الفلاني مقابل كذا هذا فيه غبن علي أو أو.
إلخ.
فلم يتركهما صلى الله عليه وسلم تحت تأثير مخافة النار، وإنما وجههما لما ينبغي أن يكون بينهما، عملاً للمستقبل نفسياً، وهنا إذا كان الإنسان يموت فإنه يريد أن يترك الدنيا، ولا يهمه من الذي يريد، ولا من الذي يشحت، صلى الله عليه وسلم: (أن تدع ورثتك أغنياء ... ) الحديث، وهكذا تكون التربية النفسية، والأخلاقية، والاجتماعية، ومصلحة الأولاد فيما بعد، ولئلا يضارهم في الوصية كما سيأتي إن شاء الله.
وهنا قال: (لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون -أي: يمدون أكفهم إلى الناس- الناس) والله سبحانه وتعالى أعلم.
لهذا يا إخوان! أنبه على أنه ينبغي على القضاة -كما هي السنة- أن القاضي يعظ كلاً من الخصمين بالحق، ويخوفهما من قضاء يوم القيامة، فإذا وجد إنساناً وقد وقع تحت تأثير الموعظة فلا يأخذه بذلك، بل يبين له حقيقة حقه وبيان أمره، فقد يقول: تنازلت، أو تركت الدعوى، أو أصالحه؛ لأنه قد وقع تحت تأثير ما، فلا يأخذه في تلك الحالة النفسية الاضطرارية، ولكن ينبهه على حقه ليكون على بينة، والله تعالى أعلم.