قوله: (فلأولى رجل ذكر) يخرج أولى أنثى، فبنت الابن هي وارثة، ولكن أنثى، لو أعطينا أصحاب الفروض فروضهم، هل ما بقي نعطيه لبنت الابن؟ لا؛ لأنها ليست برجل.
وهكذا لو وجد أبناء الأخ مع بنات الأخ، فالجهة واحدة وهي جهة الأخوة، وبنت الأخ تساوي ابن الأخ في الدرجة مستوية، ولكنها ليست رجلاً ذكراً، فلا تدخل في الأولوية فيما بقي بعد أصحاب الفرائض.
والمناقشة الطويلة التي تجدونها في المطولات وخاصة فتح الباري وغيره لقوله: (أولى رجل ذكر) يقولون: ما حاجة كلمة: (ذكر) ، مع (رجل) ؟ لأنه إن كان (ذكر) نعتاً لرجل، فماذا زادتنا وماذا أعطتنا من فائدة؟ يقول صاحب سبل السلام: وقد تكلموا فيها، وذكر بعض كلامهم، ولكن بفائدة قليلة، وابن حجر في فتح الباري يورد آراءً عديدة، ثم يفند بعضها ويترك بعضها بلا تفنيد، وأنا في نظري -والله تعالى أعلم- أنه لا حاجة لهذا كله، وليس هناك إشكال في وصف الرجل بكونه ذكراً، فكلمة (الذكر) ليست نعتاً لرجل، ولكنه وصف كاشف لعلة استحقاق الرجل لما بقي.
ولو مات عن زوجة وولد، فالزوجة لها الثمن والسبعة الأثمان للولد، فيأتي قائل ويقول: لماذا يأخذ الولد سبعة أثمان، ولماذا لا يزاد في نصيب الزوجة قليلاً؟ فيقال له: لأنه ذكر.
قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] ، لِمَ لم يقل: للولد؟ السياق (في أولادكم) والمادة معنا ولد، ولماذا لم يقل: (يوصيكم لله في أولادكم للولد مثل حظ البنتين) ، لو تأملنا أساليب اللغة العربية لوجدنا هذا الوصف مستعملاً في القرآن الكريم، فهنا أبرز الرجل بصفة الذكورة لأنها مناط الحكم والمسئولية، وأبرز البنت بوصف الأنثى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] .
ومن حيث البلاغة والإعجاز والمعنى في غير كلام الله نقول: هما متساويان، ولكن نحن في كلام الله لا نستطيع أن نتحكم أو نعترض، لكن في أداء المعنى يوجد التساوي.
إذاً: أبرز معنى الذكورة في الرجل؛ لأنه ميزه على البنت، ونقص البنت بوصف الأنوثة: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] .
والأنثى نقصت هنا في ماذا؟ قال: لأن الذكر يبحث له عن أنثى، والأنثى يأتيها ذكر يأخذها، فالذكر تحمل مسئولية أنثى تعيش بجانبه، وعليه نفقتها وصداقها، والأنثى محجبة مكرمة معززة في بيت أبيها، فيأتي الذكر ويدفع صداقها ويأخذها، فما غرمت درهماً واحداً، فنصيب الذكر وزع على الإناث، ونصيب الأنثى توفر لها كاملاً.
إذاً: وصف الرجل بكونه ذكراً نعت للرجل وبيان لحقيقته، فنصف العاقل وربع المجنون يعرف بأن الرجل ذكر، ولكن لماذا تبرز وصف الذكورة؟ ونحن نجد نظير ذلك في كتاب الله {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] ، وهل ستخرج الكلمة من غير الفم؛ من العين أو من الأذن؟ لا، لكن أبرز موطن خروجها لأنها كلمة جوفاء لا قيمة لها، وما تجاوزت في مدلولها غير الفم، فهي ليست عن عقل أو عن تفكير، أو عن تردد الفكر والاستذكار، أو تأمل حقائق الواقع، إنما هي كلمة طائشة، كما أنك تأتي لغرسه على وجه الأرض فترفعها بإصبعيك فتقلعها، لكن الشجرة المتمكنة عروقها من تخوم الأرض لا تستطيع أن تنتزعها.
إذاً: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] ، ونحن نعرف بأن الكلمة لن تخرج إلا من الأفواه، فلماذا ذكر الأفواه مع أن الكلمة ومدلولها ولازمها أنها من الأفواه؟ ليبين أنها لا أصل لها تعتمد عليه.
كذلك: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] ، معلوم أن الطائر في الجو لن يطير بأرجله بل سيطير بجناحيه، فلماذا أبرز جناحيه؟ ليبين -والله تعالى أعلم- أن هذا الطائر مهما حلق في الجو فليس ذلك بقوة الجناحين {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك:19] ، والحدأة خاصة تمد جناحيها وتتقلب يميناً ويساراً وتحوم دون أن تحرك جناحها مرة، وهل امتداد الجناح عنده القوة في أن يمسكها إلى هذا الحد؟ لا، ولذلك قال: (ويقبضن) قد نقول: حينما تمد جناحيها تعلقت بالجناحين في الهواء؛ لأن حركة الطيران قبض وانتشار، فحينما تقبض جناحيها من الذي يمسكها؟ ولماذا لا تسقط؟ إنه يريد أن يبين أن الجناحين عبارة عن وسيلة وأخذ بسبب، وحقيقة طيرانها بقدرة الله سبحانه.
وبعضهم يقول: وصف الرجل بالذكورة لبيان القوة، وهناك من يقول: ذلك احتياط من أن يذهب الذهن إلى امرأة كما قالوا: (مزقتم ثياب فتاة الحي والرجلة) .
قد تطلق كلمة (الرجلة) على الأنثى، ولكن هذا نادر وشاذ، والعرب لا تعتمد عليه.
فجاء الوصف بالذكورية ليبين موجب العلة والحكم، ومناط الحكم في هذه القضية كما جاء هناك {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، فهو يبين موجب استحقاق تمييز الرجل عن المرأة بذكورته، وأنه بذكوريته سيصبح أباً وجداً وينفق على عياله.