[وعن ابن عباس: أن الصعب بن جثامة الليثي أخبره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حمى إلا لله ولرسوله) ، رواه البخاري] .
الحمى أو الحريم: حماه يحميه إذا دافع عنه، وحرمه يحرمه إذا منعه من غيره؛ لأن الحرام الممنوع.
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام ومن هنا كان الحرام ضد الحلال، وحريم الرجل وأهله يمنعهم عن الآخرين، وحريم البيت يمنعه عن التعدي عليه، فالحريم بمعنى الحرام والمنع.
(لا حمى) : كان بعض رؤساء القبائل والفرسان المشهورين يحمون منطقة لا يمكن لأحد أن يذهب ويرعى فيها؛ لأن فلاناً قد حماها، أي: منعها عن الآخرين، وتبقى خاصة بإبله ونعمه، فإذا جاء إنسان وتعدى كان له حق الانتقام منه.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) .
إذاً: الله سبحانه وتعالى حمى المحرمات ومنعنا من ارتكابها، والملوك تحمي بعض الأماكن لخاصة نفسها، وكبار الشخصيات قد يحمون شيئاً لأنفسهم ولذويهم، فجاء الإسلام ومنع الأفراد أن يحموا شيئاً لأنفسهم؛ لأنه كما سيأتي في آخر هذا الباب، (الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار) .
الناس شركاء معك في هذا الكلأ، فلا تحمه لنفسك وتمنعه منهم.
(لا حمى إلا لله ولرسوله) ، وأين سيحمي الله لنفسه؟ الملك كله لله، لكن بمعنى لله لأنه مالك الملك، وحمى الله عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، وحمى رسول الله لله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما حمى الربذة وغيرها حماها لإبل وخيل الجهاد في سبيل الله، ولإبل الصدقة، لكي تجد المرعى الذي يتوافر لها لتؤدي واجبها على أكمل وجه، وظل الحمى إلى زمن عثمان رضي الله تعالى عنه، فكان يقول لعامله: (إياي وغنم ابن عوف وفلان، وإياك وذي الصريم -الغنمة والغنيمتين- فإنه إن تهلك غنمه يأتيني ويقول: عيالي وأولادي، والمرعى أهون علي من الذهب والفضة، أعطه إياه من بيت المال، لكن ابن عوف وفلان إذا هلكت ماشيتهم رجعوا إلى تجارة عندهم وأملاك أخرى) ، فهو يحذره أن يرعى في الحمى أحد من الأغنياء؛ لأنهم في غنى عنه، ويتساهل ويسامح في صاحب الشاة والشويهة؛ لأنها رأس ماله فإن هلكت عليه هلك، وجاء لأمير المؤمنين وقال: أعطني من بيت مال المسلمين، فإن غنمي قد هلكت لأنك حميت الأرض.
إذاً: كان هناك الحمى للإبل والخيل التي تعد للجهاد في سبيل الله، فإذا جاء إنسان بعد ذلك إلى أرض موات نبت فيها الكلأ عن طريق الأمطار أو السيول أو العيون أو غير ذلك، وحماه لنفسه أو لقبيلته فإن ذلك ممنوع؛ لأنه لا يكون الحمى إلا لله ولرسوله.
إذاً: الحق في الحمى لرسول الله، ولكن هل بصفته صاحب النبوة والرسالة أو بصفته مسئولاً عن الأمة؟ بصفته مسئولاً عن الأمة.
إذاً: من يأتي بعده ويتحمل مسئولية الأمة فله حق في هذا الحمى؛ ولذا حمى عمر وعثمان وغيرهما ممن له الحق في أن يحمي لذاك الغرض.
أما لغرضه الخاص ولتنمية دوابه أو بهيمة أنعامه ويمنع الناس منه فليس ذلك لأحد أياً كان، ولو كان ولي أمر المسلمين بنفسه لكن يحميها لدواب الجهاد وما تعد للقتال في سبيل الله، ليس لنفسه إنما لله ولرسوله، والله تعالى أعلم.