كان رسول صلى الله عليه وسلم يرسل عبد الله بن رواحة ليخرص التمر على يهود خيبر، وهل الخرص كان للمشاركة: نصف لليهود ونصف للمسلمين، أم أن الخرص كان للزكاة؟ مالك يعارض في قسمة الثمرة على الشجر في المعاوضات، ويجيزها في الزكاة، وكذلك أبو حنيفة لا يرى الخرص في الشجر، ويقول: إن هذا مبني على التخمين وعدم اليقين، فلا حاجة إلى قسم الثمرة على الشجر، بل ينتظر بها إلى الجذاذ وتقسم بالكيل، حتى لا يكون هناك غرر.
والجمهور يردون على من يمنع الخرص قائلين: إن الخرص وإن كان تقديراً فإنكم تقرون التقدير في غير الخرص، مثل قيم المتلفات، فإذا أتلف إنسان شيئاً لآخر وليس من المثليات: سيارة، أو بعيراً، ماذا سيلزم على المتلف فيما أتلف؟ يلزمه القيمة، وهل هناك مقياس يحددها؟ لا، فالمثليات في المكيل والموزون يمكن أن يكون مقارباً للحقيقة، صاع تمر أو صاع بر، الصاع يحكم بين الاثنين، أما لو كان بعيراً فلو جئت بمائة بعير لا تجد اثنين يتساويان في كل شيء، ولهذا تجد المائة بعير تختلف قيمها لاختلاف هيكلها، لونها، بدانتها، نحافتها.
إذاً: يرجع إلى التقدير، والتقدير من الخرص والاجتهاد، وإذا كنتم تقرونها في بدل المتلفات فلم لا تقرونها في قسمة الشركات؟! ومن منع الخرص بين الشركاء قال: إن ابن رواحة رضي الله عنه إنما كان يذهب ويخرص على اليهود للزكاة -وهي حق للمساكين- وليس للقسمة بين رسول الله وبين اليهود، ولكن إذا جئنا إلى أخبار ابن رواحة نجد أنه كان يخرص للقسمة، كما ذكر مالك رحمه الله في الموطأ: أن ابن رواحة لما أتى اليهود ليخرص عليهم جمعوا له من حلي نسائهم، وقالوا له: هذا لك أنت هدية، وخفف عنا في الخرص.
يعني: إن كان المجموع ألف وسق سيلزمنا خمسمائة، فاجعله ثمانمائة ويلزمنا أربعمائة فقط، فهنا قال ابن رواحة كلمته المشهورة: والله يا إخوة الخنازير لأنتم أبغض خلق الله إلي، وقد جئتكم من أحب خلق الله عندي، وما ذلك -يعني: بغضي لكم وحبي لرسول الله- بحاملي أن أحيف بكم: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] لا ترتكبوا الجرم وتميلوا وتظلموا لا، بل اعدلوا: {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ} [المائدة:8] ، أي: العدل {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] ، فقالوا: يا ابن رواحة! بهذا قامت السماوات والأرض.
(بهذا) يعني: بالعدل وعدم قبول الرشوة.
وفي بعض الروايات قال لهم: وإن هذا سحت لا نأكله، ثم قال لهم وأنصفهم بكلمة الواثق من نفسه: إني خارص؛ فإن شئتم فخذوا، وإن شئتم فارفعوا أيديكم.
بمعنى: إني خارص؛ فإن قدرتُ قدراً معيناً إما أن تلتزموا بنصفه تؤدونه لرسول الله، وإما أن ترفعوا أيديكم وأنا أضمن لكم نصفه أسلمه إليكم.
هل في هذا حيف؟ لا، كأن تقول: يا فلان! أنا أقسم وأنت تختار، أو اقسم أنت وأنا أختار.
إذاً ما هناك حيف.
فلو أنه كان يخرص للزكاة ما الذي كان يحمله على هذا أو يحملهم هم على ذاك؟ إذاً: فإنما كان يخرص من باب القسمة، وبيان حق الطرفين، ولم ينتظروا جفاف التمر وأن يأتي موعد الجذاذ ليكيلوه؟ قالوا: الخرص سواء في الزكاة أو المساقاة فإنما هو عقد إرفاق بالعامل، وفي الزكاة حفظ لحق المساكين، لذ لا يكون الخرص إلا بعد بدو صلاح الثمرة، ولو تركت حتى الجذاذ ربما العامل أو صاحب النخل يسرف في الأكل أو الهدايا، وربما يبيع رطباً، ثم في النهاية نجد أن الذي وصل إلى حد الجذاذ ربع الثمرة، أين صار حق المساكين؟ فإذا خرص عليه بأن هذا البستان فيه مائة نخلة، والنخل يتفاوت كيلها ما بين كذا وكذا وسقاً أو صاعاً، والمجموع كذا، وأنه يلزمه العشر أو نصف العشر، ويتركه بينه وبينه، إن شاء أكله، وإن شاء جامل به، إن شاء باعه رطباً، يهمنا: أن يقدم لنا العشر أو نصف العشر بحسب تقدير الخارص.
والرسول صلى الله عليه وسلم راعى مصلحة الزارع، قال: (اتركوا الربع أو الثلث؛ لما يسقطه الريح، ولما تسقطه الطيور، وبما يرده الضيف ويكارم به، وبما يأكل به العامل) فالرسول سامح أصحاب البساتين في هذه النواحي الإنسانية أو في غير الطاقة، إذا كان الريح يسقط كل يوم مثلاً عشرة؛ ولأن الطيور تأتي وتنقي وتختار أحسن ثمرة وتأخذ حظها منها وتتركها، ولأن الضيف كذلك يأتي ينظر ونحن نقول له: والله هذا حق المساكين! لا، ولكن نكارم ونعطيه، لا نقلل المروءة في الناس، وهكذا أولاده، يتطلعون إلى الثمر ونحن نمنعهم حتى يأتي وقت الجذاذ من أجل الزكاة؟ لا، بل تخرص عليه، ويعرف ما يجب في زكاتها، ثم يلتزم بذلك ويؤديه في النهاية.
إذاً: كان خرص عبد الله بن رواحة رضي الله عنه على أهل خيبر للقسمة وليس للزكاة، فما دام الأمر كذلك، والرسول ترك النخل لأهل خيبر يعملونه، ثم يرسل من يخرصه عليهم ويستوفي حقه، وثلاث سنوات في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنتان في خلافة أبي بكر، ومدة من خلافة عمر رضي الله تعالى عنهم.
بعد هذا هل نقول: إن المساقاة منسوخة؟! إن النسخ لا يكون إلا في عهد رسول الله؛ لأن النسخ تشريع جديد، وليس بعد رسول الله وحي ولا تشريع، وليس لأحد بعده أن ينسخ ما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: المساقاة ثابتة، وهي على ما اتفق عليه صاحب المال والعامل.