هذه صور من صور معاملات الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ فقد كان يشترط على العامل الذي أعطاه المال ليعمل فيه مضاربة هذه الشروط، فيقول: هذا المال الذي أعطيتك عشرة آلاف فلا تجعله في ذي كبد رطبة، ويعنى بها: هنا: الإبل، البقر، الغنم، الخيل، بهيمة الأنعام بشكل عام، فقد يكون من عشاق الطيور، فذو كبد رطب لا تجعل مالي تجارة فيه، حتى وإن كانت التجارة في ذي الكبد الرطب رابحة؛ لأن خطرها شديد؛ لأن كل ذي كبد رطب يحتاج إلى رعاية وعناية خاصة حفاظاً على حياته؛ فإذا سافرت إلى جهة ما وجئت بألف رأس من الغنم، بحسب الواقع هذه الألف كم سوف تصل؟ هل ستصل الألف هي الألف، أو تتوالد وتزيد، أم أنه يحتمل أن تنقص بموت بعضها؟ احتمال النقص فيها قوي، ولكن لو جئت بألف كيس فول سوداني: هل من المحتمل أن ينقص منها شيء؟ بطبيعة حالها: لا.
ضعها ونم فوقها على السفينة، إلى أن يقولوا لك هذه جدة، لكن ألف رأس غنم لا تقدر أن تنام عنها بل تقدم لها الماء والعلف، وتنظر التي سقطت تحت أختها، والتي ركبت عليها الثانية، والتي نطحتها.
تحتاج إلى رعاية، وإذا قصرت في هذه الرعاية عرضتها للتلف.
إذاً: يجوز له أن يشترط عليه أن لا يجعل رأس ماله في ذي كبد رطب مخافةً على رأس المال.
وهنا مسألة: لو أن العامل لم يبالِ بهذا الشرط، وقال: إن ذوات الكبد الرطب تربح خمسة أضعاف قيمتها، وأنا لا أريد أن أفوت علي هذه الفرصة، وأتى بها؛ فإن سلمت فلا كلام لأحد عليه، وفي المثل: ما كل مرة تسلم الجرة، لكن إن حصل فيها عطب ومات منها ما يلحق الخسارة، من الذي يتحمل الخسارة؟ الأصل في المضاربة أن الوضيعة من رأس المال، والعامل لا يتحمل أي شيء إلا إذا تعدى أو فرط، وهو هنا ما التزم بشرط صاحب المال وتعدى وفرط، فيكون الضمان على حسابه هو.
هذا الشرط لصاحب رأس المال مصلحةً فيه، وكذا إن اشترط شرطاً آخر، وقال: هذا مالي تعمل فيه بشرط أن لا تتعامل مع التاجر الفلاني، أو المؤسسة الفلانية، أو الشركة الفلانية، فتجاوز وتعامل، فهو ضامن، ولماذا يمنعه من شخص بعينه أو مؤسسة بعينها، بعضهم يقول: ليس له حق في ذلك؛ لأن فيه حجر له في التحرك في البيع والشراء، فعندما يحظر عليه أشخاصاً، إذاً الباقي قليل، والباقي قد لا يكون فيهم من الربح مثل هذه النواحي التي منعه منها، وإن كان هو ملتزماً بشرط صاحب رأس المال لماذا؟ لأن صاحب رأس المال يعلم من هذا الشخص الذي منعه التعامل معه أنه رجل لا يتحرى الحلال، ويتعامل بالربا أو بالمحرمات، أو يتعاطى الممنوعات، أو يعمل في الظاهر في مباحات سكر وشاهي وحليب وقشطة ولكن في الخفاء يعمل في الممنوعات، والكل يصب في صندوق واحد، فإذا كان صاحب رأس المال يعلم عن إنسان هذه الحالة فمن حقه أن يمنع شريكه من التعامل معه؛ لأن في هذا إعانة له على الباطل، وكذلك المؤسسات.
فإذا اشترط صاحب رأس المال على العامل شروطاً لا تضر بالتجارة فلا بأس؛ بخلاف ما إذا قال له: الصنف الفلاني لا تعمل فيه، وليس فيه مضرة، كأن يعمل في القماش وقال له: صنف الحرير لا تعمل فيه، فيقول: أنا آخذ الحرير وأبيعه على الحريم، وعلى الرجل ليلبسه أهله، وليس حراماً على الرجل أن يقتني الحرير ما لم يستعمله، يقتنيه ليهديه أو ليقدمه إلى زوجه إلى بناته إلى ذوي رحمه لا مانع في ذلك، كما جاء عن عمر رضي الله عنه: أنه رأى حلة تباع، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! ابتع هذه الجبة لتلبسها وتستقبل بها الوفود.
أي: زي رسمي كما يقولون.
وهذا أمر مشروع.
(ماذا على أحدكم لو اتخذ لجمعته سوى ثوبي مهنته) ، لا مانع أن يكون للإنسان لباس للمجتمعات وللهيئات ويكون ذا هيئة، كما قال البخاري في الأدب المفرد: (حسن السمت من الإيمان) ، فيتحلى بحلة جميلة عند الأجانب، وهذا فيه إظهار عظمة الإسلام، ولهذا أبيح بعض المحرم في أرض المعركة.
واتفق العلماء على جواز لبس الحرير بمقدار أربعة أصابع على حافة الجبة، وتحلية السيف بالذهب، مع أن الذهب محرم على الرجال؛ لأن في رؤية العدو لهذه الحلية إشعار بأن خصمه غني، متوافرة عنده الإمكانيات؛ فيعظم في عين الخصم.
وسمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أن جماعة من قبيلته كان فيهم تجار وفيهم أهل مدافع وقتال، وكانوا يسيرون بقافلة للتجارة، فرأوا من بعيد قطاع طريق قد يعترضونهم، فأوقفوا الإبل، وكانوا على حالة أهل السفر، والشخص في السفر يلبس ما يلاقي به وعثاء السفر وتراب الصحراء، فأناخوا إبلهم وأخرجوا حللاً للقاء الوجهاء حينما يأتون المدن وينزلون الأسواق، فخلعوا ملابس السفر ولبسوا أفخر لباسهم، وحملوا سلاحهم ونظموا أنفسهم ومشوا، فلما دنوا منهم ورأوا عليهم الأبهة والطمأنينة وعدم المبالاة ابتعدوا عن طريقهم، فلما اجتازوهم أناخوا الإبل وأخرجوا من تجاراتهم أشياء ووضعوها على الطريق كأنها هدية لهم.
يهمنا في هذا: أن العدو حينما رأى المظهر والهيئة عظم في عينه مكان خصمه.
وفي غزوة تبوك جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكيس فيه قثاء، فقال: من أين هذا؟ قال: جئت به معي من المدينة، والقثاء دون بقية الفواكه تتحمل مدة طويلة بعد قطفها، فأكل منها صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بغلام لـ أبي طلحة يمشي وعليه ثياب مهلهلة، وهم سيلقون العدو غداً، فقال: أليس لهذا الغلام ثوباً سوى ذلك؟ قال: بلى يا رسول الله! ثوب اشتريته له عند السفر وهو في العيبة، قال: ألبسه إياه، فدعاه وألبسه الثوب فإذا به إنسان آخر، ثم قال له: أليس هذا خير من ذاك، فسمعها الغلام، فقال: هو في سبيل الله يا رسول الله! قال: هو في سبيل الله، فاستشهد في تبوك.
نقف هنا ونقول: هذا غلام، سواء لبس اللبس الحسن أو القبيح فمعروف أنه غلام، ومن عادة بعض الغلمان أنه ربما اكتفى بالإزار فقط دون الرداء، أو كما يقولون الآن: باللباس دون فنيلة، وحال السفر هذا حق، لكن ما دمنا سنقبل على العدو غداً فإذا رأى العدو حالنا نمشي مطأطئي الرءوس منحني الظهور، والغلمان كأنهم لا شيء، أو مساكين ليس لديهم ما يلبسو.
إذاً: هؤلاء القوم هم هزلاء هلكى فيظهر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين وحتى غلمانهم في الهيئة الحسنة التي تعظم في عين الخصم والعدو.
جاء عمر رضي الله تعالى عنه بحلة وجدها تباع عند المسجد، فقال: يا رسول الله! اشتر هذه والبسها لتستقبل فيها الوفود، فنظر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له يا عمر) .
هنا عمر اقترح أن يلبس رسول الله حلةً جميلة، ولكن التطبيق العملي وتحقيق المناط لا يصلح في هذه الحالة التي جاء بها عمر، فلو أن عمر جاء بجبة أخرى ذات قماش يلبسه ذو خلاق لكان قبلها رسول الله، وبعد فترة جاء قماش للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الذي يلبسه من لا خلاق له، فأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها إلى عمر، فجاء عمر إلى الرسول -وهذه قضية منطقية- كيف يلبسها من لا خلاق له والرسول يرسل مثلها إلى عمر؟ نتيجة المقدمة المنطقية اجعلها معلقة، لكن عمر فهم هذا؛ فجاء: يا رسول الله! فقال: بالأمس تقول لي: إن هذا يلبسه من لا خلاق له، واليوم تهدي إلي منها، فقال: (يا عمر ما أهديتها لك لتلبسها أنت) فأرسلها عمر إلى أخ له في مكة قبل أن يسلم.
وهكذا العامل في مال الغير لو أنه عمل في الحرير بناءً على جوازه، وأن الرجل لن يستعمله لنفسه فلا مانع في ذلك، فإذا شرط عليه رب المال أن لا يعمل في هذا النوع فقد يكون قد حجر عليه في تعاطي الربح في أنواع البيع والشراء.
إذاً: اشتراط رب المال على العامل بعض الشروط إن كانت لحفظ المال فهي جائزة كما هو الحال هنا.