ولذا يقولون: الشفعة على ثلاث مراتب: الشفعة في الشراكة الشائعة للشريك، والشفعة في الجوار إذا وجدت شراكة في مرافق العقارين، والشفعة في الجوار بلا مشاركة في المرافق.
والمشاركة في المرافق قالوا: في الطريق؛ بأن يكون البيتان يقعان على طريق أو شارع واحد بشرط أن يكون غير نافذ أي: أن هذا الطريق مشترك بين الجار هذا والجار هذا؛ لأن الجار إذا باع على شخص آخر فسيأتي من يزاحمه في هذا الطريق وقد يكون شرساً أو سيئاً، فيؤذي الجار في الطريق، فقالوا: يوجد هنا معنى الشراكة، ويحتمل معنى المضرة؛ فيعطى الجار الحق في الشفعة إذا لم يوجد الشريك الشائع صاحب الحصة؛ فإن وجد -كما يقول أبو يوسف - حجب الشفعة عن غيره، فإذا لم يوجد شريك أو وجد ولم يطالب بالشفعة فللجار الذي له الشراكة في مرافق الجوار حق الشفعة.
وكذلك الأرض، هذا له أرض بحدودها وجاره له أرض بحدودها، إذا كان بينهما اشتراك في الماء الذي يسقي الأرضين، ولكن ينص أبو يوسف أيضاً بأن يكون على نهر صغير لا تجري فيه سفن، وأن يكون النهر محدوداً يسقي مزارع معينة وليس عاماً يمشي إلى ما شاء الله، وعلى هذا: مراتب الشفعة عند الأحناف: أولاً: تكون للشريك شراكة شائعة كالجمهور.
ثانياً: للجار الذي له شراكة في مرافق العقار.
ثالثاً: للجار الذي لا شراكة له في هذا العقار ولا شراكة له في مرافقه.
وحجتهم هذا الحديث: (جار الدار أحق بالدار) ، ولكن كما قالوا: هذا الحديث له علة، وقد تكلم عليه العلماء، فسنده لا يقاوم ما تقدم.
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بصقبه) أخرجه البخاري والحاكم وفيه قصة] .
وهي: أن أبا رافع قال للمسور بن مخرمة: ألا تأمر هذا -يعني: سعد بن أبي وقاص - أن يشتري مني داري -وهي قرب سعد - فقال سعد: والله ما أزيدك على أربعة آلاف، فقال أبو رافع: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بصقبه) ما بعتك بأربعة آلاف.
الواقع أن هذا الحديث له عدة جوانب، وفيه عدة شبه، والوقت لا يكفي لعرض أو لبيان نقاط المغايرة لأحكام الشفعة؛ لأنه كان له بيوت داخل الدار وليس بينهما شراكة مشاعة، وإنما هي جوار، وفي هذا الحديث قصة وهي تحتاج إلى زيادة إيضاح، ولعلنا نرجئه إن شاء الله إلى درس قادم، وبالله تعالى التوفيق.
ونحب أن ننبه الإخوة إلى أن مباحث الشفعة في جزئياتها متسعة جداً، وقد كُتبت فيها رسائل تصل إلى الثمانمائة صفحة، والتفصيل في كل جزئياتها إنما هو عند المذاهب، وقد تناولوا الشفعة في الإجارة؛ كأن يكون هناك شركاء وواحد أجر حصته، وكذلك الشفعة بالنسبة للغائب والصغير والمجنون والمولى عليه والمتراخي في طلبها، وأيسر ما يؤخذ في هذا: (المغني) لـ ابن قدامة، و (المجموع) للنووي، وقد تناولها ابن قدامة في (المقنع) ولكن بشيء من التعقيد.
وننصح الإخوة بأن يراجعوا موضوع الشفعة إذا أرادوا التوسع في الجزئيات والتصور لبعض مواضيعها فيما يتعلق بنوع الثمن وكيف ينتقل الشقص، وكل هذا سيأتي إن شاء الله لكن على سبيل الإجمال، وأما التوضيح الوافي فهو كما أشرت إما في الرسائل المتخصصة، وإما في (المغني) لـ ابن قدامة وهو أقل تفريعاً من النووي في (المجموع) ، فيرجع إلى تلك المراجع الأصيلة.
وبالله تعالى التوفيق.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.