إن انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كانت له إرهاصات، وكان فيها تنبيهات كما جاءت إرهاصات عام مولده صلى الله عليه وسلم، فكان لمولده إرهاصات أشارت إلى مجيئه، ولوفاته إرهاصات أشارت إلى قرب أجله وانتقاله.
نعلم جميعاً أن هناك من يجعل من إرهاصات المولد هلاك جيش أبرهة بطير أبابيل، كما قال الله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ} [قريش:1-2] ، أي: فعل ذلك من أجل قريش، وقالوا: إرهاصاً بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك انصداع إيوان كسرى وسقوط شرفاته، وجفاف بحيرة ساوة.
ومن العجب -أيها الإخوة- حينما جئنا إلى المدائن، وإلى الإيوان رأيناه مبنىاً في ارتفاع فوق الثلاثين متراً تقريباً، وعرضه ثلاثون متراً، وعمقه أربعون متراً، وسقفه عقود كالقبة، ليس بخشب ولا مسلح! فقلت: أين الصدع؟ فإذا به فوق الجدار في الوسط بين الأرض والسقف جدار الإيوان عرضه من أسفله أربعة أمتار، وينتهي في أعلاه على بعد النظر في العين حوالي نصف المتر، والصدع آخذ شكل -كما يقال-: (سنبوسك) من أعلى ينتهي بصفر، ومن أسفل ينتهي بصفر، ومن الوسط انفراج حوالي ما بين المترين أو الثلاثة في نظر العين، فقالوا: هذا هو الانصداع من ذاك التاريخ إلى اليوم.
فسألت: أين القبلة؟ فكان معنا الملحق الثقافي، وبحضور الشيخ ابن صالح رحمه الله، قال: ما شأنك في هذا؟ قلت: لي حاجة.
قالوا: هنا.
إلى جهة الصدع، قلت: الله أكبر! قال: ماذا؟ قلت: على اتجاه الكعبة مباشرة، لكأن أشعة جاءت من مكة إلى الأيوان فصدعته، ما صدع من الشرق ولا من الغرب، والصدع إلى مسامتة مكة تماماً، ما صدع من يمين ولا يسار، ولكنه مقابل لها، وهذا يؤيد صدق الخبر.
ومن العلامات التي وجدت عند مولده صلى الله عليه وسلم: أن الشياطين حبست عن السماء.
وكذلك عند انتقاله إلى الرفيق الأعلى، كانت هناك إرهاصات أو علامات، صريحة الدلالة على النقل، ولكن ربما كان في دلالتها بعض الكنايات، أوائل ذلك: قبل حجة الوداع في سفره صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، وذهب يقضي حاجته ويتوضأ، فتأخر على القوم، فقالوا: أمره عنده، ونحن أمرنا بالصلاة في وقتها، ونخشى إن انتظرنا أكثر ربما يخرج الوقت، وقدموا رجلاً يصلي بهم وهو ابن عوف، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معه المغيرة بن شعبة، فهم المغيرة أن ينبه الإمام ليتأخر ويتقدم رسول الله؛ لأنه من حقه، فهو الإمام الراتب، فأشار إليه رسول أن دعه، وصف في الصف خلف إمامهم، وكان قد سبق بركعة، فصلى مع الجماعة ركعة، ثم أتم صلاته بعد سلام الإمام، فلما نظر الناس ما وقع لرسول الله حدث عندهم شيء، فقال: (لا عليكم، ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن صلى وراء رجل من أمته) .
إذاً: الدلالة هنا دلالة عظمى، يدركها حتى الصغار.
إذاً: جاء النبي إلى أمة أعرابية حفاة عراة جهلة، يأكل قويهم ضعيفهم، فساسهم سياسة الإبل الصعاب حتى سخرهم الله وقادهم إليه، وانتقلوا من البداوة إلى الحضارة، ومن التبعية إلى الإمامة، وأصبح الواحد منهم صالحاً لأن يكون إماماً وقدوة يقتدى به.
تربية ناجحة، وتخريج ناجح، وأصبحت الأمة الإسلامية بجميع أفرادها صالحين للإمامة وللقدوة، ولهذا سادوا العالم، ونشروا الإسلام، وانطلقوا بالدعوة شرقاً وغرباً حتى امتلأ العالم كله بتلاميذ رسول الله، وممن اقتدى يعلمون الناس الخير، فهذا إرهاص بأنه تمت مهمته، ونجح في رسالته، وأخرج هذه الأجيال.
من ذلك أيضاً: ما كان في حجة الوداع: لما نزل عليه قوله سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:1-3] ، عمر رضي الله تعالى عنه لما رأى شيوخ قريش يستكثرون مجيء ابن عباس في مجلسهم أراد أن يبين لهم فضله وهو غلام، فسألهم ذات يوم: ما تقولون في: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ؟ قالوا: هذه بشرى من الله لرسوله بالنصرة والفتح ودخول الإنسان في الإسلام بلا قتال، وابن عباس لم يتكلم، فالتفت إليه عمر وقال: ما تقول أنت يا ابن عباس؟ قال: والله لقد نعت إلينا رسول الله وهو بين أظهرنا.
قالوا: وكيف ذلك؟ قال: إن الله أرسله بالرسالة لكي يبلغها، وقد بلغها للناس، وأصبح الناس يدخلون في الدين الذي جاء به أفواجاً بغير قتال.
إذاً: مهمته قد انتهت وقد فرغ منها، ولم يبق له إلا أن يتهيأ ويتزود لملاقاة ربه ليلقى.
فقال عمر: وأنا أرى ذلك.
كذلك قال: أحضروا المنبر.
فصعد فخطب الناس بعد صلاة الظهر، ولم ينزل حتى أذن العصر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطب الناس حتى أذن المغرب، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطب الناس حتى أذن العشاء، فقال قائل: (والله ما ترك لنا شيئاً ولا طائراً يطير بجناحيه في الهواء إلا وذكر لنا منه خبراً، حفظ من حفظ ونسي من نسي) .
وعن العرباض بن سارية، قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: زدنا يا رسول الله لكأنها موعظة مودع) ، نعم موعظة مودع، أدركوا ذلك، وقال وهو على المنبر: (عبد خيره الله فيما بينه والدنيا، فاختار ما عند الله) ، فبكى أبو بكر في أصل المنبر، قال: قلنا: ما بال هذا الشيخ! ما الذي يبكيك؟ وما شأنه في ذلك؟ أبو بكر رضي الله تعالى عنه عرف من العبد الذي خُير، وقد جاء صريحاً في مرض وفاته صلوات الله وسلامه عليه، لما ألحوا عليه أن يكتب لهم، قالوا: (دعوني فما عند الله خير لي منكم) .
بعد هذه العلامات والإرهاصات جاء مرضه صلى الله عليه وسلم وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) هنا جاء الاستخلاف.
ثم لما قال: (ائتوني بقلم وقرطاس أكتب لكم.
فقال علي رضي الله تعالى عنه: قلت في نفسي: خفت أن أذهب فيفوتني، قلت: قل يا رسول الله فإني حاضر -يعني: أحفظ ما تقول عن الكتابة، مخافة أن أذهب فيفوتني ما تريد أن تقول- فقال: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم!) ، إلى نحو ذلك، ما خرج من الدنيا صلوات الله وسلامه عليه بغتة، ولكن أعطى تعليمات وإشارات ليتهيأ الناس لذلك الحدث العظيم، كما جاء: (من أصيب في مصيبة فليتذكر مصيبته في) ، وعن أنس قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فاستنارت وأنار منها كل شيء، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظلمت المدينة وأظلم منها كل شيء) .
ويقول ابن مسعود: (والله لقد أنكرنا قلوبنا ولما نقبر رسول الله بعد) .
كانوا في حياته في إشعاع، أنوار، هداية، وبعد وفاته تغيرت القلوب.
ثم في وصيته ما ترك الناس همجاً، ما ترك الدنيا بعد هذه التوجيهات إلا وقد رسم لهم منهج السعادة والحياة الكريمة، وإبقاءً على دعوة الإسلام وامتدادها إلى ما شاء الله: (تركت فيكم -أي: بعدي- ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي) .
وهكذا أصبحت الأمة الإسلامية تسير على محورين متقابلين، كل منهما يبين الآخر، ويفصل مجمله: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالسعيد من رزقه الله فهم كتاب الله، وفهم سنة رسول الله، وإقام حياته على مقتضاهما، ولقد جرب العالم منذ ذاك التاريخ حينما يقام كتاب الله، ويعمل بسنة رسول الله حين كانت الأمة الإسلامية هي أسعد الأمم في العالم، حينما كانت دول الغرب -كما قيل- قناصين في البحر، أو صيادين للأسماك، أو بادية في صحرائهم وغير ذلك، كان العرب سادة وقادة، وأخذ الغرب عن المسلمين -دون أن يعلموا- ذخائر العلم وردوها عليهم.
وهكذا نحن في هذا العصر وبعد قرن ونصف يجد العالم كله أن التجربة الإسلامية هي الحقة، الدولة التي قامت على كتاب الله وعلى سنة رسول الله على ما في أهلها من قصور، لكنها أمثل العالم أمناً واستقراراً وطمأنينة وإخاءً، فعلى هذا كان صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع حينما قال هذا الحديث النبوي الشريف: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) ، وإني لأتمنى وأرجو من الإخوة طلبة العلم أن يتعاون الخمسة أو العشرة على النظر في كتب السنة والمسانيد ليجمعوا كل ما قيل في تلك الخطبة، ثم ينسقوها لنا، ويقدموها لنا منهجاً وبرنامجاً.
وبالله تعالى التوفيق.
والحمد لله رب العالمين.