أحب أن أنبه على قضية أكبر من هذه: أعتقد أن كل إنسان، ويمكن لأول مرة يسمع أن زوجات رسول الله كن قد خاصمن رسول الله بسبب مطالبتهن بالنفقة، وشددن الطلب، فتركهن غضباناً، وخرج إلى المشربة وظاهر منهن شهراً، حتى بلغ الخبر إلى عمر محرفاً بأن زوجات رسول الله طلقن، وكان عمر له جار في العالية يتفقان على المناوبة في رعي البستان وفي النزول إلى المسجد النبوي، ينزل أحدهما إلى المسجد النبوي مع رسول الله حتى المساء، ويحفظ ما يسمع، ويرجع إلى صاحبه يمليه عليه، بينما صاحبه هناك يراعي مصلحة النخيل، ومن الغد من كان في النخيل ينزل إلى المسجد النبوي، وهكذا دواليك.
فجاءه -أي: جاء عمر صاحبُه- وبعد المغرب ينادي عليه بشدة: يا عمر يا عمر! قال: ما شأنك، أجاء الروم؟ لأنهم كانوا يتوقعون مجيء الروم، قال: لا، الأمر أشد.
قال: وما هو؟ قال: طلق رسول الله زوجاته.
ومن إحدى زوجاته حفصة بنت عمر، فأخذ رداءه وذهب؛ فوجد الدنيا واجمة، ثم جاء من الغد ودخل المسجد، فوجد الناس واجمين، فسأل: أطلق رسول الله زوجاته؟ فلم يرد عليه أحد، ثم دخل على حفصة، قال: أطلقكن رسول الله؟ فظلت تبكي وما ردت عليه، قال: أين رسول الله؟ فأشارت إلى المشربة، وكان على الحجرة حارس منعه من الدخول على رسول الله، قال: استأذن لي على رسول الله.
فرجع وقال: استأذنت فلم يتكلم.
فاشتد الأمر على عمر، فانتظر برهة ثم قال: اذهب فاستأذن لي على رسول الله.
ثم بعد فترة قال: قد أذن لك يا عمر فاصعد، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واجماً، فقال: أطلقت زوجاتك يا رسول الله؟ قال: لا.
فكبر عمر -الله أكبر (ثلاث مرات) - يقول عمر: فعزمت في نفسي أن أقول شيئاً يضحك رسول الله، وهذا الواجب على الصديق الوفي حينما يجد صديقه في أزمة، يجب أن يفتح له باب الحديث، ويطرق القلب ليعرف الموضوع، يجب أن تكون له فعالية، كما لو جاء إلى المريض لا يكون كلٌ منهما ينظر في الآخر، يجب أن يكلمه عن العافية، عن الثواب، عن الأجر عند الله، عن الأمور التي تفسح فسحة الأمل في الحياة.
لما قال: ما طلقت.
قال: خيراً، وسكت، ثم قال: يا رسول الله! لو رأيت فلانة -يعني زوجته- وهي ناشبة في وتقول: أعطني، أعطني.
وما عندي ما أعطيها، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي يطلبنني النفقة فيما ليس عندي.
إذاً: فتح الباب، وانحلت العقدة، فنزل إلى ابنته يطعنها: أغرك من بنت أبي بكر أن تقول على رسول الله؟! والله لولا أنا لطلقك، أتطلبين من رسول الله من النفقة ما لا يملك؟! لا تسألي رسول الله شيئاً، ما أردت من المسألة والحاجة فاسأليني أنا، ولا تكلفي رسول الله شيئاً.
وهذا موقف الصهر العاقل، ولو يدفع من عنده ويتحمل من نفقات ابنته في بيت زوجها لتظل الحياة الزوجية كريمة؛ لأنه إذا لم يفعل هذا، وضاق الأمر بزوجها ستعود إلى بيت أبيها، وستكلفه أكثر من هذا، فيكون هناك غض النظر في البذل والجود، وهناك تصلح الأمور وتستقيم الحياة الزوجية.
فهذه ناحية، الناحية الثانية هي التي ساقها البخاري: تضايقن، وكلمن سودة أن تكلم رسول الله في أن يكلم الناس بأن يوزعوا الهدايا حيثما كانت، وحصلت المناقشة والعرض، وثلاث مرات وهن يلححن عليه، حتى قال: (لا تؤذيني في عائشة) ، ولما رأوا هذه الواسطة ما نفعت ذهبوا إلى فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها، فكلمته، قال: (ألا تحبين ما أحب يا ابنتي؟ قالت: بلى.
قال: لا تؤذيني في عائشة) ، ثم جاءت زينب بنت جحش وفعلت ما فعلت، ولقيت ما لقيت، وانتهى الأمر بأنهن ما وصلن إلى شيء.