وهل يكون الإقرار مرة واحدة، أو مرتين بعدد الشهود في الأموال، أو أربع مرات بعدد الشهود في الزنا؟ الصحيح: أن الإقرار ما دام أنه اعتراف المرء على نفسه يكفي مرة.
والذين قالوا: يجب تكراره، استدلوا بقضية ماعز؛ لأنه أتى فاعترف فأعرض عنه، ثم جاءه عن يمينه، وجاءه من أمامه ومن خلفه أربع مرات، لكن الرسول كان يعرض عنه لعله يذهب ويترك إقراره، لا لينتزع منه تكرار الإقرار الموجب للحد؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولما ألح قال: (أبك جنون؟ قال: لا، لعلك فاخذت؟ لعلك قبلت؟) ، فقال: بل زنيت بها، وكل هذا من دواعي صدقه، وتلك الأسئلة كأنها إيماء له بالرجوع عن إقراره، وسأل أصحابه: (أمجنون هو؟) .
قالوا: تكرر اعتراف ماعز أمام رسول الله أربع مرات، فيجب أن يكون الإقرار في الزنا أربع مرات بدلاً من أربعة شهود.
لكن جاء رجل برجل وقال: قد سرق، وليس معه متاع، فقال: (ما إِخالك سرقت!) حتى يقول: ما سرقت، ويذهب.
وجاء عن علي أنه قال: إذا جاء المعترف بالسرقة أو بالزنا فردوه.
إذاً: ليس تكرار إقرار ماعز، وإعراض الرسول عنه؛ لإثبات الحد بل هو يريد أن يدرأه عنه، ويدل على أن الإقرار مرة يكفي قوله في حديث العسيف: (فإن اعترفت) ، وما قال: أربع مرات.
إذاً: الإقرار مرة يكفي في الحقوق، أما الرجوع عن الإقرار فهذا مبحث كبير، إذا كان الرجوع عن حد من حدود الله فيصح رجوعه، بل إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله ذهب إلى أبعد من هذا، فقال: لو جاء إنسان وأقر على نفسه بالزنا، ولم يعين من زنى بها، أخذ بإقراره؛ لكن إذا عين المرأة التي فعل معها الفاحشة، وسئلت فنفت، فهي لا تؤاخذ بإقراره، ويسقط الحد عن هذا المعترف! لماذا؟! قالوا: لأن الزنا لابد فيه من جانيين، وهذه أنكرت، وقبلنا إنكارها، والزنا لا ينتصف، إذاً: لا يقام عليه الحد، وهذه شبهه، والجمهور على خلاف ذلك، وأنها إن أقرت أخذت بإقرارها، وإن لم تقر لا يقام عليها الحد.
والرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءته الجهنية ما سألها: مع من زنيت؟ ولما جاءه ماعز ما سأله: مع من زنيت؟ فهو يرغب في الستر على المسلمين، فلا يبحث عن الزناة، بل يسكت عنهم.