فـ أنس يروي لنا من صور آداب الخلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، ولفظه (كان) تدل على التكرار.
(وإذا دخل) المراد بـ (دخل) : أراد الدخول؛ لا أنه إذا دخل بالفعل، والمراد أن ينزع الخاتم، وسبب نزع الخاتم أنه منقوش عليه "محمد رسول الله" ثلاث كلمات في ثلاثة أسطر، فلو حملنا (إذا دخل نزع) على ظاهر لاقتضى إدخال هذا الذكر الذي فيه لفظ الجلالة بيت الخلاء، ولهذا قلنا: إن معنى (كان إذا دخل) أي: إذا أراد أن يدخل، وكما يقول المالكية: ما قارب الشيء فإنه يعطى حكمه، وفي القرآن الكريم {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل:98] والمعنى: إذا أردت القراءة، فكذلك هنا: إذا أراد خول الخلاء.
قال: (نزع خاتمه) .
أول ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الخاتم كان يلبس خاتم الفضة، وكان له فص من العقيق، فلما أراد أن يراسل الملوك والأمراء ويدعوهم إلى الإسلام، قالوا له: يا رسول الله! إن الملوك لا تقبل خطاباً إلا إذا كان مختوماً بختم المرسل، أي: حتى يكون رسمياً كختم الدائرة أو ختم الدولة، فترك الخواتيم التي هي مزينة بفص العقيق -وهو فص من الأحجار الكريمة- والناس يتخذون الآن العقيق والفيروز والزمرد وغيرها من باب الحلية ومن باب الزينة، ويذكرون خواص في هذه الأشياء الله أعلم بحقائقها.
فترك الخاتم الذي فيه فص العقيق، واتخذ خاتماً من فضة ونقش على فصه محل الحجر، فجعله مربعاً أو مستديراً أملس، وحفر فيه نقش "محمد رسول الله".
قالوا: كان صفة النقش أن لفظ الجلالة في الوسط، ولفظ "محمد" ولفظ "رسول" في الطرفين، ومهما يكن من شيء ففيه لفظ "محمد" رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه الرسالة، وفيه لفظ الجلالة.
وهنا أخذ العلماء ضرورة تنزيه ما فيه ذكر الله عن مواطن الخبث: فإذا دخل ونسي الخاتم أن ينزعه فماذا يفعل؟ قالوا: إن أمكن نزعه وإخراجه وهو قريب من الباب بعيد عن الأقذار فعل، فينزعه ويجعله في فيه ويطبق شفتيه عليه، حتى يكون في حجاب عن مواجهة الأقذار، ولا مانع من ذلك.
وإن لم يمكن أن ينزعه، وصعب عليه أن يخلع الخاتم، كأن تطول مدة الخاتم في يده ويصبح الخاتم ضيقاً فيحتاج في نزعه إلى مجهود أو آلام، قالوا: يدير الفص إلى داخل الكف ويطبق الكف عليه، فيصبح اسم الله أو ذكر الله محفوظاً بداخل الكف لا معرضاً لمواجهة الأقذار؛ لأنه لا يؤمن أن يكون في محله عارياً عن ستر، ربما مع استعمال الماء أو مع أي شيء يحصل هناك رذاذ من تلك المياه الموجودة، فتصل النجاسة إلى ما فيه ذكر الله، فيقع المحظور.
وقياساً على الذكر الموجود في الخاتم يشمل الحكم كل ما فيه ذكر الله، سواء كان خاتماً، أو كان حلية، أو كان قرطاساً، أو كان جهازاً أو آلة، فمهما يكن من شيء يشتمل على ذكر الله فإنه يجب تنزيهه عن بيت الخلاء، فإن تذكر قبل الدخول فبها ونعمت، وإن لم يتذكر فعليه أن يحتاط، فإن استطاع أن يبعده وهو على جلسته فعل، وإن لم يحتط فعليه بإخفائه عن مواجهة النجاسات، قالوا: حتى لو يضعه في عمامته، وذلك عندما كان الناس يلبسون العمائم.
وعلى هذا فالأمور تختلف من حيث هي، فـ مالك رحمه الله يكره إدخال شيء مكتوب بالعربية ولو لم يكن فيه ذكر الله، لو أن هناك كتاب هندسة -زوايا وأضلاع ومقاييس موجودة- أو أشكال هندسية يعبر عنها بكلام عربي قال: لا ينبغي إدخالها ولا التمسح بها ولو لم يكن فيها ذكر الله؛ لأن تلك الكلمات والحروف عربية، والقرآن الكريم إنما هو بلسان عربي نطقاً وكتابة، فتحترم الحروف التي بها كتب القرآن الكريم عن تلك الأماكن.
أما اللغات غير العربية فإنه إن وجد فيها ما تعرف ترجمته بذكر الله فهي تأخذ حكم العربية؛ للمعنى الذي تحمله، كما قيل: الألفاظ قوالب المعاني، أما إذا كان بلغة غير عربية، وليس فيها ذكر الله فهذه لا قيمة لها، كنقوش ليس لها حرمة.