قال رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو بعت من أخيك تمراً فأصابته جائحة؛ فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟) ، رواه مسلم، وفي رواية له: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح) ] .
يأتي المؤلف رحمه الله في نهاية باب البيوع بهذين الحديثين، الحديث الأول: (إذا باع أحدكم ثمراً لأخيه فأصابته جائحة؛ فلا يأخذ من ماله شيئاً) ، وأمر صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح.
صورة هذا الحديث مما تقدم لنا في بيع الثمار وحدها دون الأصول: أنها لا تباع حتى يبدو صلاحها، وبدو الصلاح: هو أن يمكن لصاحب الذوق المعتدل أن يأكله، ثم بين صلى الله عليه وسلم نوع هذا الصلاح: بأن ثمر النخل تحمار أو يصفار، وفي العنب أن يتموه حلواً؛ فإذا حصلت تلك الصفات في الثمار جاز بيعها دون أصولها، كما هو المعروف عند أهل المدينة ببيع الصيف، يعني: ثمرة النخل صيفاً، ويكون هناك العنب والرمان والتين، وكل ذلك تباع الثمرة دون الأصل -أي: دون الشجرة- بخلاف ما إذا باع الشجرة والأرض وانتقل الأصل للمشتري، فسيأتي في الحديث حكم ذلك؛ فعلى أن الثمار لا تباع حتى يبدو صلاحها، وفي بعض الروايات: (حتى يطلع النجم وتؤمن العاهة) ، والنجم هو الثريا، وبمشيئة الله سبحانه يعتدل الجو وتؤمن الآفات على الزراعة.
فإذا أمنت العاهة في غلبة الظن وأن الثمرة ستظل سليمة إلى النهاية جاز بيعها، فإذا باعها قبل بدو الصلاح كان مغايراً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معرضاً لإصابة الآفة، أما إذا اشترى الثمرة بعد بدو الصلاح وعلى الوجه الشرعي، ثم جاءت جائحة، والجائحة هي الحدث العام الذي يجتاح -بمعنى: يكتسح ويدفع ما أمامه- بعد أن وقع البيع بعد بدو الصلاح على الوجه المشروع، وجاءت على غير العادة، فمثلاً: اشترى الصيف بعد بدو الصلاح، وبعد أن اشتراه بشهر -أو أكثر أو أقل- جاءت ريح عاتية فأسقطت الثمار وأتلفتها، أو جاء مطر مصحوب ببرد، وأسقط البرد الثمرة وأتلفته، أو نحو من ذلك الذي هو خلاف العاهات الزراعية والآفات التي تعتري الزراعة مما هو معهود عند علماء الزراعة، فتأتي آفة عامة بحدث مفاجئ فتتلف الثمرة، هذه هي الجائحة؛ فحينئذ وقع البيع ودفع المشتري الثمن أو لم يدفع وكان في ذمته، وخلى بينه وبين الثمرة يأخذ منها ما شاء، ويستغلها كيفما شاء.
وعلى صاحب النخلة أو الشجرة أن يسقي إذا احتاجت إلى سقي، أو يمنع من سقيها إذا كان ذلك يضرها، فلو كان لصاحب النخيل زراعة تحت النخل وتحتاج إلى سقي، لكن السقي يضر بالشجر؛ فيمنع للمضرة عما هو مبيع.