قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) أخرجه البزار، وأصله في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد، ولـ مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وللحاكم عن أبي سعيد مرفوعاً: (إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثت.
فليقل: كذبت) وأخرجه ابن حبان بلفظ: (فليقل في نفسه) ] .
قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته) أي: سواءً كان في المسجد أو في البيت.
قوله: (فينفخ في مقعدته) والمقعدة: موضع الحدث.
قوله: (فيخيل إليه) أي: من نفخة الشيطان يخيل إليه أنه أحدث، والحال في الحقيقة أنه لم يحدث، ولكنه تخييل من الشيطان.
قوله: (فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف) فإذا وجد ذلك التخييل من الشيطان فلا ينصرف؛ لأنه في صلاة.
وقد تقدم نظير هذا الحديث وهو حديث: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أو لا فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) وهنا قال: (يأتي أحدكم الشيطان فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه) فالإشكال والتخييل سواء، فكأن الحديث الذي هنا يناسب أن يكون مربوطاً مع الحديث الأول، ولكن المؤلف له رأيه في هذا، والله تعالى أعلم.
ويبين لنا صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يتابع الإنسان من أجل إبطال عبادته إلى أقصى حد، فهو أولاً: أراد أن يمنعه من الصلاة، فسمع الأذان واستحيا أن يترك الصلاة، فمشى ملبياً -حي على الصلاة- فإذا جاء ليتوضأ شككه في الوضوء، وجاء له بالوسواس كما في الحديث: (إن للوضوء شيطاناً يسمى الولهان) فتغلب عليه وتوضأ، فإذا دخل إلى المسجد، لم يستطع أن ينطق (الله أكبر) وذلك بسبب وسوسة الشيطان، فلما دخل في الصلاة ما بقيت لدى الشيطان إلا الفرصة الأخيرة، فيأتي وينفخ في مقعدته ليخيل إليه أنه أحدث، فلو أخذ بهذا التخييل فسينصرف ليتوضأ، وسيعيد الكرة وينفخ فيه مرة أخرى، وهكذا حتى لا يستطيع الإنسان أن يؤدي الصلاة، ومن هنا بين صلى الله عليه وسلم أنه إذا خيل له بسبب هذا النفخ أنه أحدث، والحقيقة أنه لم يحدث، فماذا يفعل؟ قال: (فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فلا ينصرف) أي: فلا ينصرف من صلاته، وليبق على صلاته وعلى يقينه بالطهارة وليبق على اليقين الذي هو عليه، فمجيئه من بيته إلى المسجد، وقيامه في الصف، كل هذا يدل يقيناً على أنه متوضئ، وهذا التخييل الذي طرأ عليه إنما هو من الشك، والشك لا يلغي اليقين السابق، أو اليقين لا يلغى بهذا الشك الطارئ عليه.
قوله: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) وهذا كما تقدم هناك إذا شك هل خرج منه شيء أو لا؟ فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يشم ريحاً.
وتحقيق الأمر في (يسمع) أو (يجد) : لو أنه أصم لا يسمع، ولو أنه مزكوم لا يشم شيئاً فهل يتوقف الأمر على هذا حتى يتعافى من الزكام، وحتى يعالج من الصمم؟ الجواب: لا وإنما هذا خرج مخرج الغالب، والغرض أن يكون عنده يقين فعلاً بأنه قد أحدث، أما مجرد التخييل فلا.
وقوله: وللحاكم عن أبي سعيد مرفوعاً: (إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثت.
فليقل: كذبت) وأخرجه ابن حبان بلفظ: (فليقل في نفسه) .
هذه إعادة للحديث مرة أخرى، وزيادة توكيد و (أشكل عليه) أو (خيل إليه) أي: بسبب نفخ الشيطان، فليقل له: كذبت، أنا ما أحدثت.
ولكن هل يقولها بصوت يسمع أو يقولها في نفسه؟ جاءت الزيادة تبين ذلك: (فليقل ذلك في نفسه) ليؤكد عند نفسه أنه لم يحدث، وأن الشيطان كاذب في ادعائه، وأنه على يقين من طهارته.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.