هذا النوع من خيار المجلس قال به كل من أحمد والشافعي رحمهما الله ومن وافقهما أو من سبقهما من الصحابة والتابعين، أما مالك وأبو حنيفة رحمهما الله فلم يقولا به، وصار هناك تشنيع على مالك وأبي حنيفة، الحديث صحيح ولماذا لم يقولا به؟ وقد رواه مالك في الموطأ، وما كان يجهله، ولكن لماذا يرويه ولا يعمل به؟ وهذا هو الذي كثر الحديث عنه عند أهل الحديث في شأنه وفي شأن مالك، حتى قال بعض معاصري مالك فيه مقالاً، وكذلك هو مذهب ربيعة شيخ مالك، ومذهب خالد الزنجي شيخ الشافعي، وإذا جئنا إلى سبب رفض مالك العمل بهذا الحديث، يقول: هذا مما ليس عليه عمل أهل المدينة، مع أن ادعاء الإجماع في المدينة لا يتأتى؛ لأن هناك ابن أبي ذئب -وهو من قرناء مالك - قد عمل به، وأخذ بخيار المجلس، وقد ابن عبد البر من أخذ به من المدينة، وبعد إطالة النقاش قال: إن المالكية والأحناف سردوا في هذا الباب شيئاً كثيراً لا دليل لهم فيه، شبهتهم -كما نص مالك في الموطأ-: بأنه لم ير أحداً من أهل المدينة يعمل به، وهناك نصوص أخرى ساقها أبو حنيفة رحمه الله، منها: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] ، يقول: إذا كنا سنجعل خيار المجلس عند التبايع فلا يمكن وفاء بعهد ولا وفاء عقد، وكلما عقدنا عقداً اختار في المجلس فسخه.
ولكن أجابوا عن ذلك: بأن هذا عام في طريق، وهذا خاص في طريق آخر، ولا يرد هذا على ذاك.
ثم يقولون: لو قلنا بخيار المجلس بعد انعقاد العقد، وهو: إن كان لم يقع العقد فله الحق، وإن كان بعد انعقاد العقد فقد انتهى ما بينه وبين صاحبه، وقالوا: إذا تبايعا بمعنى تساوما، فإذا كانا في حالة المساومة فكل منهما بالخيار، فقال ابن عبد البر وغيره: لو حملناه على المساومة لضاعت فائدة الحديث؛ ومعلوم أنه قبل أن يأتي هذا الحديث أن المتساومين بالخيار، ولا يحتاجان إلى حديث يعطيهما حق الفصل ما داما في المساومة ولم يستقر الأمر، إذاً: كل منهما له حق.
وقالوا أيضاً: البيعان بالخيار، إذا قال البائع: بعت، والمشترى لم يقرر بقوله: اشتريت.
فهذا التبايع وجب من طرف واحد -وهو البائع- والمشتري لم يقل: اشتريت.
يعني: أن البيع وقع من طرف واحد، وبقي الطرف الثاني لم يعقد العقد، فقد عقد على نفسه -وهو البائع- الخيار قبل أن يعقد المشتري البيع بقوله: اشتريت؛ لأن البيع لم يتم بعد.
وكما قال ابن عبد البر رحمه الله: كل ما ذكروه احتجاجاً برد الحديث لا محل له، وقال أيضاً عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله: إنه عادة ما يعرض حديث الآحاد على الأصول في الكتاب والسنة، فإذا وجده مخالفاً ربما تركه.
وهذا من أشد ما يؤخذ على أبي حنيفة رحمه الله.
وهنا نحب أن ننبه الإخوة على كلام ربما وقفوا عليه لـ ابن أبي ذئب في مالك -ليعلموا ما بين الأقران- وإذا كان ابن أبي ذئب يحمل على مالك، فلماذا لا يحمل على ربيعة شيخه، وعلى أبي حنيفة وأصحابه محمد بن الحسن وأبي يوسف وزفر، وكلهم يقولون بعدم خيار المجلس؟ فإذا كانت المسألة علمية، وكان الاجتهاد موجوداً وله مجال في القضية فلا ينبغي التحامل على أحد الطرفين فيما فهمه.
ويقول ابن عبد البر اعتذاراً عن مالك: لعله قد بلغه ما ينسخ هذا الحديث، فترك العمل به.
والراجح عند جمهور العلماء: ثبوت خيار المجلس، وعليه مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله، وهو قول ابن عمر ومن وافقه من الصحابة من التابعين، وهذا القدر يهمنا في هذا الحديث: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا) .