قوله: (نهى صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة) المحاقلة والمزابنة: اصطلاح فقهي، مأخوذ من نحت الكلام، محاقلة: مفاعلة، أصل مادتها: حَقَل، والمحاقلة مأخوذة من الحقل، والحقل بمعنى الغيض، بلغة مصر، وسوريا، وغيرها، والحقل موضع الزراعة، والمحاقلة: هي بيع الزرع في حقله بعد خرصه وتقديره بحب مكيل من نوعه، وهذا لا يجوز؛ حتى يشتد الحب في سنبله، وتجب فيه الزكاة، وعلى أي أساس؟ سيأتينا إن شاء الله.
فإذا كانت لديك مزرعة قمح، فبعت القمح في سنبله بقمح مكيل من نوعه، فمثلاً: بعت المزرعة بثلاثة أرادب، أو بعشرة أرادب من القمح، فإن ذلك لا يجوز؛ لأنك قدرت ما هو موجود في الحقل -وهو مجهول الكمية- وبعته بما هو معلوم، وكان الثمن من جنسه، وهما صنفان ربويان، ووجد التفاوت بينهما، فأنت أخذت القمح الآن أرادب، وهو أخذه سنابل في عيدانها، وهذا لا يجوز.
ومن المحاقلة أيضاً: الإجارة، وصورتها: أن يأتي صاحب الحقل الكبير ويعطيه لمزارع، ويقول له: هذه الأرض تزرعها قمحاً، على أن لي ما ينبت على القناطر، وفي رءوس الجداول، ولك ما كان في وسط الأحياض، أو أجرتك هذا الحقل، أو الأجرة من هذا الجانب الغربي الشمالي.
إلخ، فيعين له محلاً من المزرعة، ويجعله أجرة له مقابل عمله، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وجاء عن جابر: (يا أهل قباء! لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم فيه خير، ولكن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم أولى، نهى أن تؤاجر الأرض أو يباع الزرع على ما ينبت على الماذيانات، ورءوس الجداول) ، والماذيانات: القناطر، والقنطرة هي التي يجري فيها الماء ويوزع على الأحواض، فالماء فيها مستمر، وربما يستمر فيها الماء في السقية الواحدة حوالي ثلاث إلى أربع ساعات، فالنبات النابت في القنطرة يشرب ست ساعات، بينما النبات الذي داخل الحوض لا يشرب إلا خمس دقائق أو عشر دقائق، فلا يستوفي من الماء كالذي يستوفيه زرع القناطر، وكذلك ما كان في رءوس الجداول -أي: الأحواض- وهي الفتحة التي عند القنطرة، ويدخل منها الماء إلى الحوض، فإذا كانت مساحة الحوض أربعة في أربعة أمتار، ومدخل الماء إلى الحوض من القنطرة، فالماء يمر على رأس الجدول إلى أن يستوفي الحوض الماء، وآخر الحوض يأتيه الماء متأخراً، ثم ينقطع عنه، فتكون رءوس الجداول التي عند القنطرة قد استوفت ماءً أكثر، بينما آخر الجداول استوفت ماءً أقل، وكلما استوفى الزرع ماءً أكثر كان أكثر إنتاجاً، فجاء جابر وذكر النهي، ثم قال: (فلربما صح هذا وفسد ذاك) ، فلو اتفقت مع الأجير، وحددت له مكاناً معيناً من المزرعة، على أنه أجرة له مقابل عمله، فقد يصاب ذلك الجزء بآفة وتلف.
إذاً: الأجرة مجهولة، ولابد أن تكون الأجرة بشيء معلوم، كالدراهم، كأن يقول: أستأجرك لتزرع هذا الحقل براً أو شعيراً -على ما تريد- بمائة درهم، أو بعشرة دنانير، أو بأي شيء معلوم، أو بعشر ما يخرج منها، فهنا صار القدر معلوماً، وكم سيخرج منها؟ لا ندري، فإن كان المحصول كثيراً فسيستفيد منه الطرفان، وإن كان قليلاً فالنقص داخل على الجميع، وكان بعض السلف يكره أن تؤجر الأرض بجزء مما يخرج منها، ولكن قل: أجرتك إياها بإردبين، ولا تشترط أن يكون من منتوج الأرض التي أجرتها؛ لأن الإردبين تحل محل الدنانير والدراهم، أما بجزء مما يخرج منها فلا.
والآخرون يقولون: إن هذا مثل الشراكة، فلو تشارك اثنان على جزء من الربح، وهما لا يعلمان كم الربح، لكن هذا التعامل أقره الإسلام، وهو ما يسمى بالمضاربة، فتدفع المال لشخص يعمل، وله نصف الربح -مثلاً- وهو لا يعلم كم سيربح، ولا يعلم كم سيكون نصفه، وأنت لا تعلم كم ستربح، وكم سيكون نصفك، ولكنها مخاطرة، إلا أنها معاملة جائزة، والعمل جارٍ عليها.
فكذلك المحاقلة على جزء مشاع، بنسبة مئوية فيما يخرج من هذه الأرض.