الرعاف هو: خروج الدم من الأنف خاصة، وهذا كما يقولون: قلّ من يسلم منه، خاصة في الحر وفورة الشباب ووفرة الدم، فيكون الرعاف كثيراً عند بعض الأشخاص خاصة في سن المراهقة لوفرة الدم، يقول الأطباء: إن منطقة الأنف يلتقي فيها اثنا عشر عرقاً مع الأعصاب لحساسية الدم، فأدنى احتقان في الأنف يأتي بالرعاف، ولذا من أنواع علاجه الكي، فتكوى تلك العروق لتنشف وتجف.
وبالمناسبة فإن من أصيب بالرعاف فأخذ ماء الليمون واستنشقه، أو ماء البصل واستنشقه فإنه يوقف عنه الرعاف.
فهذا الدم إذا خرج من الأنف فعلى من خرج منه أن يتوضأ، فإذا خرج الدم من اليد أو من الرِجْل فهل على من خرج منه أن يتوضأ أو هو خاص بالأنف؟ الجواب: من نظر إلى هذه المسميات قال: مجموعها نجس، فالدم نجس في الرعاف، والقيء نجس بتغيره في المعدة، واختلفوا في القلس هل هو نجس لخروجه من داخل أو ليس بنجس؛ لأنه لم يتغير بعد بل هو على ما هو عليه؟ فمن قال بالوضوء من هذه قال: كل نجس خرج من الجسم من أي موضع فهو ناقض، وهذه قاعدة يقول بها الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وهي رواية عن أحمد: (الخارج الفاحش النجس من البدن ناقض) .
فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يرى العمل بهذا الحديث، ولكن روى مالك رحمه الله في الموطأ قال: باب الرعاف.
وذكر فيه أربعة أو خمسة آثار عن ابن عمر وعن ابن عباس وعن غيرهما، أثر ابن عمر: أنه كانت تصيبه البثرة في وجهه فيفقؤها بإصبعه ويخرج منها القليل من الدم فيفتله بين أصابعه وهو يصلي، وكان يخرج منه الرعاف قليلاً فيتلقاه بأصابعه ويفتله بين أصابعه ويصلي.
وجاء عن سعيد بن المسيب في الرعاف أنه قال: (إذا كثر فاستلق على ظهرك) فاستلقى على ظهره ثم قام فذهب فغسل عنه الدم ثم رجع فصلى ولم يبطل وضوءه، وفي بعض الروايات: فذهب فتوضأ، فحمله من لم ير الوضوء من هذه الأشياء على أن (توضأ) المراد به الوضوء اللغوي، وأنه كما جاء في بعض الروايات: (غسل الدم ورجع) .
الإمام أبو حنيفة رحمه الله يرى الوضوء من القيء ومن القلس ومن الدم الخارج، بشرط أن يكون فاحشاً لا أن يكون قليلاً، والفاحش: هو ما جاوز مكانه.
وبعضهم يقول: هو بقدر الدرهم البغلي، والدرهم البغلي نسبة إلى رجل اسمه البغل كان يسك الدراهم لـ جعفر البرمكي أو لدولة العباسيين، وقيل: هو أقل من الكف.
وأشياء عديدة، أو ما فحش في عين الناظر فإنه يكون حينئذ ناقضاً للوضوء.
أما بقية الأئمة الثلاثة فلم يقولوا بالوضوء من هذه الأمور إلا من الرعاف إذا كثر فيغسله، واستدلوا على عدم الوضوء بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه احتجم، وغسل موضع المحاجم وصلى ولم يتوضأ) والحجامة تخرج دماً كثيراً أكثر من الرعاف، فكونه صلى الله عليه وسلم غسل موضع الحجامة الذي هو موضع خروج الدم ولم يتوضأ معناه أن خروج الدم من الجسم ليس بناقض.
والمشكل في هذا: أنه يذهب يتوضأ ويرجع ويبني على صلاته أي: بعد أن يذهب ويستدبر القبلة، ويأتي بهذه الحركات والخطوات، وقد تكون المسافة إلى المغسل، مقدار ربع كيلو متر، وهو لا يتكلم يرجع ويبني على صلاته، فقال بعضهم: إن هذا عمل كثير يخرجه عن هيئة الصلاة فيقطعها، ولكن إذا صح الحديث فلا قول لأحد معه؛ لأن الحديث قد جاء في أن المصلي يقتل الحية والعقرب وهي تزور عنه يميناً وشمالاً ومع ذلك لا يزال في الصلاة.
إذاً: بعد هذا العرض نرجع مرة أخرى إلى سند الحديث: الحديث أخرجه ابن ماجة وضعفه أحمد وغيره.
فإذا كان الحديث سنده ضعيف فهل ينبني عليه حكم؟ نحن قلنا: بأن اليقين لا يرفع بشك، وهذا حديث ضعيف وأقل ما فيه أنه سيورث شكاً، إذاً: نبقى على الأصل وعلى هذا يكون غير ناقض.
والله تعالى أعلم.