قال المصنف رحمه الله: [وعنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعه) رواه أحمد والنسائي وصححه الترمذي وابن حبان، ولـ أبي داود: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما، أو الربا) ] .
أقول: ما تعب طلبة العلم في صورة نهي كهذه الصورة، (نهى عن بيعتين في بيعة) ، (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) كثر ما قيل في هذه الصور، وقد اختلف العلماء في تحديد الصورة التي يتحقق بها المراد من هذين الحديثين، ولكن الشافعي رحمه الله فسر البيعتين في بيعة بتفسير سهل جداً، ومريح، ولو أخذ به الناس لاستراحوا، واستراح طلبة العلم من عناء التفكير والتعب، واستراح الناس في معاملاتهم.
ولكن يرد عليه ما يرد من حيث السند ومن حيث المعنى، فـ الشافعي رحمه الله يقول: هو أن تبيع السلعة بثمن مؤجل، أكثر من سعرها في الحاضر بسبب التأخير، مثل بيع التقسيط: نقداً بمائة، ومؤجلاً بمائة وثلاثين، فهذه بيعتان، يعني: عقدان في بيعة، أي: سلعة واحدة، مثل ما يوجد في بيع السيارات الآن -وهي التي أساءت إلى الناس- نقداً بعشرين ألفاً، ومؤجلاً: بخمسة وعشرين ألفاً.
فـ الشافعي فسرها بهذا، (بيعتين) أي: عقدين: عقد حال، وعقد مؤجل، في بيعة، وهي السيارة، وقال: فمن باع بيعتين في بيعة -كما تقدم- طبق عليه الحديث الآخر: (فله أوكسهما) يعني: أقلهما، (أو الربا) ، وهذا ينطبق تماماً على هذه الصورة، بعت السيارة بيعتين: بيعة بمائة، وبيعة بمائة وثلاثين، (فلك أوكسهما) يعني: أنقصهما، إذاً: نحسبها بمائة، وإن أصر على مائة وثلاثين، كانت الثلاثون ربا.
لكن العلماء يقولون -وجعلوا لها تخريجاً أيضاً-: هذا ينطبق عليه فعلاً إن انصرف الطرفان دون تحديد نوع المبيع، فلم يقل المشتري: اشتريت حالاً بمائة، ولم يقل البائع: بعت مؤجلاً بمائة وثلاثين، البائع قال: نقداً بمائة، ومؤجلاً بمائة وثلاثين، وقال المشتري: نعم، وأخذ السيارة (شغل ومشى) ، على أي السعرين تم البيع؟! لم يحدد! ويقولون: لم يتعين نوع العقد من العقدين، فالمشتري لم يحدد: قبلت بالنقد، أو قبلت بالنسيئة، والبائع كذلك، لم يحدد: باع بالنقد، أو باع بالتأجيل، وافترقا على ذلك، فهل يطالب البائع المشتري بالمائة؟ أم ينتظر حتى يأخذ المائة والثلاثين بعد سنة؟ ما عندنا تحديد، فقالوا: من هنا وقع الغرر؛ لأن البائع لا يدري ما الذي استقر له في ذمة المشتري، أهي المائة حالاً الآن أم هي المائة والثلاثون بعد سنة؟! ومالك يزيد في هذه الصورة شكلا ًآخر، ويقول: إن هذا العقد الذي لم يحدد فيه نوع الثمن، فيه ربا، كيف هذا؟! على تحقيق: (أوكسها أو الربا) يقول: لعل المشتري أرادها نقداً، وانصرف على أنها نقد، ثم بدا له أن يجعلها نسيئة، فيكون استقدم المائة نقداً بمائة وثلاثين بعد سنة، وهذا هو عين الربا، أو أن يكون البائع قد انصرف عن المشتري على أنها نسيئة بمائة وثلاثين، ثم جاء المشتري ودفع المائة، فيكون البائع قد باع بمائة وثلاثين، ثم وضع وتعجل، وقولهم: زد وتأجل، أو ضع وتعجل، هما صورتان للربا، فـ مالك يحقق معنى الربا في هذين العقدين، إذا لم يعينا أحد العقدين ويتفقا عليه.