قال رحمه الله: [وعنه (أي: ابن عمر) (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حَبَل الحبلة، وكان بيعاً يبتاعه أهل الجاهلية، وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .
مما نهي عن بيعه ما فيه غرر؛ لأنه غير معروف، وغير مضمون، مثل ما جاء في هذا الحديث، وهو مثال عام لكل ما فيه غرر، أبيعك ما في جيبي! أبيعك ما في الصندوق! وما الذي في الصندوق؟! لا أدري، إذاً: هذا غرر، أبيعك هذا الثوب على طيه ولا تفكه؟! وهل أنا أدري ما بداخله؟! أبيعك ما يأتيني به فلان! وهل أنا أدري ما الذي سيأتيك به؟! فكل ما فيه غرر داخل في هذا الحديث: (نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة) حَبَلها: الذي في جوفها، وهل النهي عن بيع الطبقة الأولى وهي: الحمل الموجود أم أن النهي عن بيع الطبقة الثالثة، وهي: أن تنتج الناقة أنثى، فيكبر هذا النتاج، ثم ينتج، فيكون جيلاً ثالثاً أو أن النهي ليس منصباً على عين الحمل، وحمل الحمل، بل جعل الحمل موعداً لوفاء الدين؟! (نهى عن بيع حبل الحبلة) ، قالوا: يحمل على أمرين: أن ينتظر وضع الحمل ثم يكبر هذا الحمل إلى أن يبلغ وينتج، فحينئذ حل الدين، هذا واحد: أن يجعل حبل الحبلة موعداً لوفاء الدين، وإذا وقفنا عند هذه: فلو اشتريت عبداً وقال: حلول ثمنه عند حبل الحبلى التي عندك، أو حبل الحبلى التي عندي والتي تعرفها، ما المانع في هذا؟ قالوا: لا ندري متى يأتي حبلها هذا الموجود، والمعروف عند الناس: تسعة أشهر، أو سنة، طيب هذه التي جاءت، متى تكبر؟ ومتى تحمل؟ ومتى تنتج؟ لا تجد شيئاً مضموناً يمنع النزاع، فنهي أن يجعل هذا الوصف موعداً لوفاء الدين، وهذا أحد المعاني التي فُسر بها الحديث، مع أنه بعيد.
والمعنى الثاني -القريب-: أن يقول قائل لآخر: بعني الناقة.
فيقول: لا؛ هذه عزيزة عندي.
طيب: بعني الذي في بطنها -نتاجها-، وبعض الناس يحرص على النوعية خاصة في الخيل، فيحجز الحمل الموجود في هذه الفرس، ويشتريه -تكون معروفة بأصالتها، فيحرص الناس على سلالتها، فيتسابقون في شراء نتاجها- وكذلك الإبل، ففي زمن عمر باع رجل ناقة بثمانين جملاً -أنا ما كنت أظن أن يصل السعر إلى هذا الحد- فالنوعية والسلالة تجعل الناس يرغبون في نتاجها، فصاحب هذه الناقة الأصيلة لن يبيعها، ولكن سيبيع نتاجها، فيأتي إنسان ويشتري حبلها، وهو لم يأت بعد، فنهي عن ذلك، لماذا؟ لا ندري هل ستأتي بناقة أو جمل؟ وهل ستأتي بكبيرة أو صغيرة؟ وكما يقولون: سمحة الخلقة أو لا! بيضاء أو حمراء! وهناك صفات يرغب فيها المشتري قد تختلف، وهل ستأتي بمولود حي، أو أنها تموت ولا تنتج؟! أما بيع حبل الحبلة: فالمراد أن تنتظر الحبلى حتى تضع، ثم ينتظر المولود حتى يكبر وينتج، ونتاجه هو المبيع، فالجهالة تكون في هذا أكثر وأكثر، فإذا منع في الحمل الموجود بالفعل؛ فيمنع في نتاجه فيما بعد من باب أولى، والسبب في ذلك وجود الغرر، وكل بيع فيه غرر في السلعة، أو في الثمن؛ فهو منهي عنه، فمثلاً: لو قال قائل: اشتريت منك الناقة بما في يدي! بما أحمل من النقد، بما في هذا الصندوق! بما في هذه الخرقة! ولا تعرف هل هو نحاس، أو ذهب، أو فضة، أو حصاة؟! ولا تعرف كم عدده، ولا مقداره، ولا وزنه! فهذا غرر.
إذاً: النهي عن بيع حبل الحبلة يحمل على أحد الأمرين: أن يجعل موعداً لسداد الديون، وهذا ضعيف، أو أن يقع البيع على نفس الحمل حينما يأتي، أو على نتاج الحمل بعد أن يوضع، وهذا فيه غرر كبير؛ ولهذا نهي عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.