وقوله: (وإنما الولاء لمن أعتق) ، كل ما تقدم مقدمة، ثم قال: (وإنما الولاء لمن أعتق) ، وهذه جملة مبنية على يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، وهو اشتراطهم الولاء لهم، وإن لم يكونوا هم الذين أعتقوا، أي: اشتراطكم ذلك باطل، والصحيح أن الولاء لمن أعتق، سواء كان رجلاً أو كانت امرأة، أو كان عبداً مملوكاً، فلو كان عبداً مملوكاً وسمح سيده له بالاتجار، وامتلك العبيد، وأعتق، صار ولاء عبيده -الذين أعتقهم- له، فإن ماتوا، ولم يتركوا عاصباً، ورثهم بالولاء، مع أنه إذا مات أبوه، أو مات أخوه لا يرثه؛ لأنه مملوك، لكنه ورثهم بالولاء.
وقوله: وعند مسلم قال: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء) .
(اشتريها) مثل كلمة: خذيها، ويبين أن هذا عقد جديد، وأن عقد المكاتبة قد أُلغي، وأن بريرة جاءت تطلب المساعدة، لكن تغير الموقف وانقلب إلى بيع وشراء: (اشتريها وأعتقيها) ، فبناءً على شرائك إياها، ماذا كانت النتيجة؟ ماذا كانت نهاية بريرة؟ عُتقت، وألغي شرط البائعين، وأصبحت معتوقة لـ عائشة رضي الله تعالى عنها.
تتمة لقضيتها، ألم نقل: إن ابن خزيمة ذكر عن فلان أنه أخذ أربعمائة مسألة فقهية من قصتها، فقصتها مهمة وليست عادية، فبعدما أُعتقت، وملكت نفسها، تتمة للحكم أخبرها صلى الله عليه وسلم أنها ملكت نفسها، وهي بالخيار بين بقائها زوجة بالعقد الأول، وبين اختيارها لنفسها، وينفسخ عقد الزواج بينهما برغبتهما.
إذاً: قبل أن يبين لها، قال لها: (لا تعجلي) حفاظاً على العقد السابق، وعلى عقد الزوجية والحياة الزوجية، فاختارت نفسها.
وهذا التخيير -في باب الطلاق، وكتب الفقه- موجود بين الزوجين الأحرار، ويسمى التخيير والتمليك، فإذا جاء الزوج وبينه وبين الزوجة وئام وعشرة طيبة، {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] ، ثم بدأ من الزوجة بعض النفرة، وهو لا يحب أن يطلقها ابتداءً من عنده، فيقول: نحن كالأخوين، وحياتنا مبنية على الكرامة، وحفظ المعروف، وأنا لا أتحكم لكوني أملك الطلاق -لأن الطلاق لمن أخذ بالساق- ولكن أُخيرك على ما أردتي، خيرتُك بيني وبينك، هذا التخيير يعطيها الحق بأن تقول: اخترتك، أو أن تقول: اخترت نفسي، فإن قالت: اخترتك، فيتفق العلماء على أن هذا التخيير الذي صدر منه لا يحتسب من الطلقات الثلاث؛ لأنه عرض عرضاً ولم يتم، وإن قالت: اخترت نفسي، فسخ النكاح، وهذا الفرق بين التخيير والتمليك، أقل ما ينفسخ به النكاح واحدة، أما التمليك، فيقول: ملكتك نفسك بطلقة بطلقتين بثلاث وبقدر ما ملكها تتصرف، فإن قال: ملكتك طلقة، فقالت: طلقت نفسي ثلاثاً، فبعض العلماء يقول: لم يحصل شيء؛ لأنه أعطاها واحدة وطلقت الثلاث، هو أعطاك واحدة، فلم تمتلكي الثلاث، ولم تستخدمي الواحدة التي أعطاك إياها، وبعضهم يقول: هو أعطاها واحدة، وهي طلقت ثلاثاً، والثلاث مشتملة على الواحدة ضمناً، فتكون الواحدة قد وقعت.
وهكذا التخيير والتمليك حكم موجود بين الزوجين الأحرار حينما يكون هناك حسن العشرة، ويقولون: إن الزبير بن العوام كان مع زوجته في عشرة وفي مؤانسة طيبة، فاستحت أن تطلب منه الطلاق، وهو لم تطب نفسه أن يطلقها، وسكتت إلى قبل الوضع، وفي يوم جمعة، قالت: يا فلان! لم أطلب منك شيئاً إلا وأعطيتني، أريد أن تقر عيني بطلب واحد، قال: ما هو؟ قالت: تملكني نفسي إلى أن ترجع من الصلاة، فأحس أني طليقة، وأني حرة، وأني أملك أمر نفسي، قال: مرحباً، ملكتك أمرك إلى بعد الصلاة، فذهب وجاء فوجدها متغطية، فقال: ما بك؟! قالت: ملكتني نفسي، واخترت نفسي، وقد وضعت وخرجت من عدتك -امتلكت نفسها فاختارت نفسها فعليها العدة، ووضعت حملها، فخرجت من العدة- قال: خدعتيني.
إذاً: التخيير والتمليك حكم موجود في باب الطلاق، فهنا أخبرها بأن أمرها في يدها، ماذا كان الأمر؟ اخترت نفسي، فعلم زوجها بهذا التخيير، وامتنعت عليه، قالوا: وكان يحبها أشد ما يُحب الرجل زوجه، فكان إذا رآها في الشارع، تبعها ويبكي ويستعطفها؛ لترجع إليه، وهي لا تلتفت إليه، ولا ترد عليه جواباً؛ وعلم بذلك الناس، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو بالمؤمنين رءوف رحيم- فأشفق على زوجها، واسمه: مغيث، وفي يوم أصبحت عند عائشة؛ لأن عائشة مولاتها، وأصبحت واحدة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بريرة! انظري زوجك، انظري في أمره، فإن أمره صار شديداً، فقالت -كما ذكرنا سابقاً-: يا رسول الله! أشافع أنت أم آمر؟) أقول: إن هذه الكلمة لا تفي بها قواميس الأدب، ومهما تطاول أديب بأن يُبين مدى أدبها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن يبلغ هذه الكلمة.
أشافع -والشفاعة ليست لازمة- أم آمر؟ والأمر لازم، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] ، فقبل أن تجيب تأكدت من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهو شفاعة وشفقة بـ مغيث أو هو أمر وإلزام لها؟ فلما قال لها: (شافع) ، والنبي صلى الله عليه وسلم زوج عائشة، وهي عتيقة زوجه، وأدبياً واجتماعياً له الحق أن يأمرها، ولن ترد عائشة أمره فيها، ولكنه يعطيها الحق المشروع لها.