تأتي المداعبة اللطيفة: يا جابر! أنت كنت زهدت في جملك وتريد أن تسيبه، فهل تبيعه الآن؟! انظروا اللطافة إلى أي حد! معناه: أنك كنت زاهداً فيه، ولا تريد من ورائه شيئاً، فهل تبيع؟! كأنه يقول: هاه! هل ناسبك الآن؟ أيصلح لك؟! أتبيعني جملك؟! قال: لا.
أنت بالأمس كنت تريد أن تسيبه، والآن نريد أن نشتريه منك نقداً، فتقول: لا! كنت أريد أن أسيبه لما كان أعيى، ولكنه الآن صار ممتازاً، لماذا أبيعه؟ قال: بعني.
إذاً: ما دام أتت الثانية، أو أتت المساومة، فلابد من الطاعة، فهل استحى جابر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أعاد إليه: بعني، أو استجاب له؛ لأنه فعل أمر: (بعني) ؟ قال: بعتك.
قوله: (فقال: بعنيه بأوقية.
قلت: لا) .
الأوقية: أربعون درهماً.
(بعنيه بأوقية) هل أوقية ذهب أو فضة؟ كان أكثر تعامل أهل الحجاز بالفضة، (بعنيه بأوقية.
قال: لا) ثم أعاد عليه الأمر، فقال: (بعتك) ولكن نحن في منتصف الطريق، فكيف أبيعك الجمل! وأنا أين أذهب؟! وقوله: (ثم قال: بعنيه.
فبعته بأوقية، واشترطت حملانه إلى أهلي) .
بعد أن انتهوا، وتم البيع بإيجاب وقبول، ولم يدفع الثمن بعد، قال: (واشترطت حملانه إلى أهلي) أنا صحيح بعتك، ولكننا في الخلاء فأشترط عليك -وقد اشتريته، وأصبح في ملكك- أن يحملني إلى المدينة، إذاً: حملانه من محل العقد إلى المدينة خارج عن العقد، العقد تم بالإيجاب والقبول، ولكن جابراً اشترط منفعة له في المبيع، والرسول صلى الله عليه وسلم وافقه بدليل: أن جابراً لما وصل المدينة جاء بالجمل، وقال: خذ حقك، وأعطني حقي.
فقال صلى الله عليه وسلم: يا فلان! أعطني الثمن.
وانظر إلى المضي في المداعبة إلى أي حد! قال: (فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري) .
أخذت الثمن ورجعت، وكل واحد ذهب في سبيله، أرسل في أثري، قال: تعال.
قوله: (قال: أتُراني ماكستك لآخذ جملك؟) .
تعال يا جابر! أنت بعتني هناك، وأخذت الثمن الآن وانتهينا، لم تعد بيننا مساومة، أتراني -بمعنى: أتظنني- ماكستك هناك عند العقد؟ (حينما قلت: بعني بأوقية.
فقلت: لا.
قال: بعني) هذه هي المماكسة، والبيع إما أن يكون على المماكسة -وهي المساومة- أو على الوضيعة، أو على المرابحة، أو على المساواة.
أتراني ماكستك هناك -ونحن في الخلاء- لكي آخذ جملك منك؟ لا، أنا ما فعلت هذا يا جابر! خذ جملك، هو لك والثمن.
ولماذا لم يقل له من البداية: يا جابر! خذ هذه الأوقية؟ لكن كيف يأخذها جابر بدون بيع وشراء، فلو جاء وقال: خذ يا جابر! سيقول: لماذا هذه يا رسول الله؟! ما موجبها؟! فإذا أراد الصديق أن يصانع صديقه، وكان ذا حياء، فيجب أن يحتال في صورة ترفع الحياء والخجل عن صاحبه: أنا أريد أن أشتري منك هذا.
قال: والله أنا في حاجته، ولكن ما دمت تريد أن تشتريه فأنا لا أقول لك: لا، فإذا كانت قيمته عشرة تعطيه عشرين، أما لو جئت وقلت له: يا فلان! هذه العشرة هدية لك! سيتساءل: ما موجبها؟ لعله رآني محتاجاً، وماله كثير، أنا.
أنا.
وسيحصل في نفسه مثل هذا الحرج، ولكن لو قال: بعني هذا، هذا أعجبني، ما له نظير في السوق، فسيقبل ذلك بسرور، أنت وهو والناس كلهم يعرفون أنه يساوي عشرة، لكن دفعت له عشرين، وظاهر الأمر أنك دفعت العشرة الزائدة لكونك رغبت في هذه السلعة، وليس هناك غضاضة على البائع بالمكارمة في الثمن، وهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أتراني ماكستك لآخذ جملك بالأوقية؟ خذ الجمل والأوقية فهما لك.