حكم بيع شحوم الميتة والانتفاع بها

وهكذا نهى صلى الله عليه وسلم عن هذه المسميات، ثم إن السامع لما سمع النهي عن بيع الميتة، والميتة فيها ما ينتفع به عرفاً، وهو شحوم الميتة، يؤخذ فيجمل فيذاب -كما ذكر- وتطلى به السفن، أي: من الجانب الذي يلي الماء؛ لئلا يتخلل الماء في مسام الخشب؛ فيعدمه ويفسده، أو فيما بين تركيب اللوح على اللوح، فقد تكون هناك فجوات، أو مسام، فيحشونها بخيوط الصوف، أو الكتان، ويملئون فراغها، ثم يأتون بالشحم، أو يأتون بالقار، أو يأتون بأي أنواع الشحوم التي لا تذوب في الماء؛ لتسد المسام التي بين الألواح حتى لا يتسرب الماء إلى داخلها، أو إلى داخل الخشب فيفسده.

فاستثنوا (قالوا: يا رسول الله! أرأيت - (أرأيت) تستعمل بمعنى: أخبرني، أي: أخبرنا يا رسول الله! - شحوم الميتة، فإنه يستصبح بها، وتطلى بها السفن) .

قوله: (يستصبح بها) كان في السابق: يستصبح بمادة الدهن، قال الله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور:35] ، كان زيت الزيتون أرقى أنواع الاستصباح؛ لأن ضوءه يأتي صافياً، وليس فيه دخان، فكان يؤتى بالمصباح، وهو: عبارة عن وعاء مثل الكأس، يملأ بالزيت، ويوضع في داخله فتيلاً غير مشدود البرم، خفيف البرم -سحيل، كما يقال- ويجعل أحد طرفيه على حافة الكأس من الخارج، ويجعل الطرف الآخر داخل الكأس، وعملية الجذب وكثافة النار تسحب الزيت، والزيت يخرج من داخل الكأس بواسطة هذا الشريط -الخيط- فيصل إلى النار فيضيء، وكان إلى عهد قريب في المسجد النبوي القناديل معلقة، وكان يؤتى بالزيت بالبراميل، وهناك أحجار الزيت موجودة في التاريخ، ومستودعات الزيت كانت قبل العمارة السعودية الموجودة، فيستصبح بها، سواء كان في البيوت، أو كان في الطرقات، أو كان في المساجد.

فهذه مصلحة ومنفعة، فطلبوا استثناء شحوم الميتة، وقالوا: نستثني من ذلك يا رسول الله! الشحوم يا رسول الله! فإنه وإن كانت الميتة محرمة، ولا يجوز أكلها، ولا الانتفاع بها، ولكن في شحومها منفعة، فقال: (لا، هو حرام) .

كلمة (هو) هذا الضمير المنفصل يعود على أي شيء؟ هل هو عائد إلى النهى عن البيع، وبيع: لفظ مذكر، مصدر، يصدق عليه (هو) يعني: بيعها حرام، ويصدق عود الضمير على الشحم (هو) يعني: شحمها حرام، فكلمة (هو حرام) يتردد الضمير المنفصل في العود: إلى البيع المعنون له في الأول مع الأصناف الأربعة، وإلى الشحم المستجد الذكر، فقوله: (لا؛ هو حرام) يعني: بيعها، أم أن قوله: (لا؛ هو حرام) يعني: الشحم حرام، فمن هنا وقع الخلاف بين العلماء في الانتفاع بشحوم الميتة.

فقيل: الضمير راجع إلى البيع فقوله: (هو حرام) يعني: البيع حرام، فلا يجوز بيعه، ولا أخذ ثمنه، أما الانتفاع به لصاحبه في غير البيع فجائز؛ لأن التحريم عائد على البيع، وليس هناك نهي عن الانتفاع.

وإن كان الضمير راجعاً إلى الشحم، فيكون النهي عن الانتفاع عموماً، ومنه البيع؛ لأن البيع انتفاع، ولذلك نجد بعض العلماء يقول: لا ينتفع من الميتة بشيء، واستثنى منها: الشعر، والصوف، والوبر، فإنه يؤخذ من الميتة وينتفع به، وهذا جائز باتفاق، والخلاف في العظم: كسن العاج، وسن الفيل، وقد جاء: (ما أبين من حي فهو كميتته) ، وسن الفيل عاج يؤخذ منه وهو حي، فهل يكون كميتته حرام الانتفاع أو ليس كميتته، ولكنه كالشعر، والوبر، والصوف، في الحيوانات ذات الشعور والأوبار والأصواف؟ يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا: سن الفيل خارج مثل الظفر، لأنه حينما يقص ليست فيه حياة، فهو كالجماد، إذاً: يجوز بيعه، ويجوز استعماله، وإن كان قد أبين من حي.

وقد جاء تحريم الميتة عاماً، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] (ال) شملت جسمها من شعرها إلى ظلفها، وجاءت السنة واستثنت من ذلك الشعر، وفي الآية الأخرى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80] ، فقد أباح القرآن: جز الصوف، والوبر، والشعر، من البهيمة وهي حية، والانتفاع منه، إذاً: هذا تخصيص السنة للقرآن.

وجاء أبعد من هذا: (هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به) ، وفي الحديث الآخر: (إذا ماتت الميتة فلا تنتفعوا منها بشيء) وهو عام في كل شيء، لكن جاء الاستثناء في قوله: (هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به) ولو كان إهاب ميتة، ولو تنجس فإنه يطهره الماء: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) ، حتى إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله عمم الإهاب وقال: ولو إهاب خنزير، وقيل: إن الخنزير ليس لديه جلد.

-أنا لا أدري حقيقة الأمر، ولكن لا يوجد حيوان بدون جلد- وقيل: إن جلده يؤكل مع لحمه؛ ولهذا لم يخصص الجلد عن بقية اللحم في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] ، فالضمير راجع إلى عموم الدائرة التي تحتوي الخنزير: شعره، جلده، لحمه، شحمه، فكل ما فيه: رجس، ولهذا لا يطهر.

فهنا استثني من الميتة الانتفاع بالجلد، ويطهر بالدباغة، سواء كانت بالتراب، بالقرظ، بالخشب، بأي شيء، ما دام قد دبغ، وأخرجت الرطوبة التي كانت فيه، وأصبح جرماً بلا رطوبة، فيجوز الانتفاع به، مع اختلاف الناس في الانتفاع بالمائعات، أو في اليابسات.

إلخ.

فهنا لما طلبوا استثناء شحوم الميتة من عموم النهي في البيع قال: (لا، هو ... ) هو: هل الضمير عائد على البيع أو على الشحم؟ فمن قال: عائد على البيع، قال: إن الشحم تابع للميتة، فإذا لم يجز بيعها؛ لم يجز الانتفاع به بأي حالة من الحالات، بدليل ما ذكر صلى الله عليه وسلم في حق اليهود: (لما حرم الله عليهم الشحوم جملوها فأذابوها فباعوها فأكلوا ثمنها) ، إذاً: انتفعوا بما حرم الله عليهم من الشحوم، وليس بلازم أن يكون الانتفاع بالأكل مباشرة، ولكن باعوها وأكلوا ثمنها، والثمن مادة سيالة تذهب في المطعوم وغير المطعوم، وحصل لهم انتفاع بالمحرم بواسطة، وهذا تحيل على ما نهى الله عنه.

فقوله: (هو حرام) أي: الشحم، فلا يجوز بيعه بأي حالة من الحالات، ولا يجوز استخدامه في أي شيء؛ لأنه حرام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015