قوله: (فدفع قبل أن تطلع الشمس) .
دفع قبل أن تطلع الشمس، يعني: قبيل طلوعها؛ لأننا إذا صلينا الفجر عند الأذان فقد صلينا قبل طلوع الشمس، وإذا صلينا بعد طلوع الفجر بنصف ساعة فقد صلينا قبل طلوع الشمس، وإذا صلينا قبل طلوع الشمس بعشر دقائق فقد صلينا قبل طلوع الشمس، ولكن إذا قيل: قبل طلوع الشمس فمعناه: قرب طلوعها.
قوله: (حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً) .
دفع من المشعر الحرام حينما أسفر جداً، وقبل أن تطلع الشمس، وذلك مغايرة لما كان قبل الإسلام، فقد كانوا يقولون: (أشرق ثبير كيما نغير) ولم يكونوا يفيضون من المزدلفة حتى تشرق الشمس على رأس جبل ثبير، فخالف النبي صلى الله عليه وسلم أعمال الجاهلية ونزل من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس، ثم دفع حتى أتى بطن وادي محسر بين مزدلفة ومنى، فحرك راحلته قليلاً، وهنا من أعظم الدروس التي يأخذها الحجاج في حجهم في بطن هذا الوادي موجب هذا الإسراع، وموجبه أن هذا الوادي أنزل الله سبحانه فيه العذاب على قوم فأهلكهم، وجميع الأماكن التي هي مواطن المسخ أو مواطن العذاب، لا ينبغي لإنسان أن يقيم فيها ولا أن يمر بها، ولا أن يدخلها إلا للحاجة، ووادي محسر لابد للحاج أن يقطعه؛ لأنه بين المزدلفة وبين منى، وليس هناك طريق غيره، فإذا دخله فعليه أن يسرع الخطى حتى يخرج منه، وقالوا: إن الإنسان يسرع في هذا الوادي مقدار رمية الحجر، بقدر المستطاع؛ لأن الأمور تقديرية، فإن كان راكباً حرك الدابة، وإن كان ماشياً على قدميه أسرع خطاه، بقدر ما يتيسر له دون إرهاق.
والسبب في ذلك كما هو معلوم للجميع ما كان من قصة جيش أبرهة حينما جاء ومعه الفيل قاصداً هدم الكعبة، فلما وصل إلى الطائف رأى صنماً كبيراً فظنه الكعبة، فقالوا له: لا، إن مطلبك أمامك، فقال لهم: أعطوني رجلاً يدلني على الطريق، فأعطوه رجلاً، فمشى معه إلى أن نزلوا ببطن الوادي، وقد أصبحت مكة قريبة منهم، فجاء هذا الرجل إلى الفيل وهمس في أذنه وقال: أتدري يا محمود! إلى أين تذهب، وماذا يراد منك؟ وكان محمود اسماً للفيل، والناس قد يسمون بعض الحيوانات، فيسمون بعض الغنم سعدية وسعدة ونحو ذلك، فبقي الفيل جالساً، فلما أرادوا أن ينهضوا به حينما أرادوا الرحيل لم يقم، فضربوه وآذوه بمحاجم فلم يتحرك، فحولوه إلى حيث أتى فقام يهرول راجعاً، فحولوه إلى جهة الكعبة فبرك مكانه.
ودائماً ننبه في مثل هذه الحالات على أن الإنسان إذا كان طاغياً، وفكرة الطغيان مسيطرة عليه فإنه تغلق عليه الأبواب وتظلم بصيرته، ولا يرى الرشد، ونظير هذا ما وقع لفرعون عند أن جاء ووجد البحر مفلوقاً لموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كل فرق كالطود العظيم، فأنت يا فرعون! لو كان عندك عقل، وأنت ترى البحر الذي تعرفه قد أصبح الآن طرقاً، والماء الرجراج قد أصبح مثل الجبل، فستعلم أن هذا شيء ليس بعادي، وستعلم أن هذا وقع لنبي كان يدعوك من قبل، وقد أراك تسع آيات، وأراك العصا والحية، ودعاك إلى الله وتعب معك في الدعوة، وأنت الآن أمام أمر يفوق قضية العصا والحية أو يعادلها، وقد مشى فيه موسى، فلماذا لم تقف وتتذكر وتعتبر بأن الذي فعل هذا لموسى ليس بقدرة موسى، وإنما هو بقدرة رب موسى الذي كان يدعوك إليه؟ ولماذا لم تأخذ العبرة والموعظة ما دام أن ربه قد عمل له هذا؟ إذاً: هو على الحق، فكان المنطق السليم أن يرجع فرعون أمام هذه الآية، ولكن طغيانه أنساه، وأظلم بصيرته، فلج ودخل في تلك الطرق وسط الأمواج، فأطبق الله عليه البحر وأغرقه هو وجنوده.
وكذلك نقول هنا لـ أبرهة: أنت قد رأيت الفيل وهو كما يقولون: أغلظ الحيوانات طبعاً، ولكنه ذكي، ويذكرون عن الفيل في تعليمه أنه من أذكى الحيوانات، ويفاضلون بينه وبين الفرس في الذكاء؛ لأن الفرس ذكي جداً، فها أنت يا أبرهة! قد رأيت أن الفيل ليس قادراً على أن يُقبل على ما أنت مقبل عليه، وقد جعل يرجع ويهرول إلى الموضع الذي أتى منه، أفلا ترجع؟! كان عليك أن تتأسى بالفيل، وأن تحجم عن الذي جئت من أجله، وأن ترجع كما رجع الفيل عنه، ولكنه أصر على المضي، فكان كما قال الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} [الفيل:1-3] الإبيل والأبابيل جمع: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:4] سبحان الله! يقولون: كان الطير يحمل ثلاثة أحجار: حجرين في مخلبيه وحجراً في منقاره، وكان الحجر الذي يرميه على الفارس يخترق الفارس والفرس حتى يسقط إلى الأرض، وقد ذكرت لكم سابقاً أن بعض الناس يتساءلون ويقولون: إذا كان في الحجر قوة الاختراق هذه، وتخترق إنساناً من رأسه إلى الفرس إلى الأرض فكيف استطاع الطير أن يمسكها بمخالبه، وأن يمسكها بمنقاره؟ الجواب: قد ذكرت لكم أن هذا ممكن في الموجودات الأخرى، فقد وجد مثل هذا في حجر اليود، وهو يستخرج من ماء البحار المالحة، إذا وضعته على الحديد صهره، وإذا وضعته على الخشب أشعل فيه النار حالاً، وإذا وضعته على الزجاج لا يؤثر فيه شيئاً ولا يرفع الحرارة فيه حتى درجة واحدة، فالذي خصص الزجاج عن الحديد وعن الخشب هو الذي جعل الطير تأخذ هذه الحجارة ولا تؤثر فيها شيئاً، ويهمنا أن الله سبحانه أهلك ذاك الجيش بفيله في هذا الوادي، {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] .
فما كان موطن عذاب، فإن السنة فيه أن يسرع الإنسان ولا يقيم، ويقول كثير من المؤرخين: إن الله سبحانه وتعالى فعل ذلك في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا من الإرهاصات لمجيء النبي صلى الله عليه وسلم، فهنا أسرع النبي صلى الله عليه وسلم الخطى، وكما قال في مدائن صالح: (لا تدخلوها عليهم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا) أي: ولو من باب الشكليات؛ لتظهروا الأسف، وهنا نقول: أبرهة قد انتهى هو وجيشه وفيله، والذي نأخذه نحن في هذا الموطن من الموعظة والعبر أننا ننظر إلى منهجية الفريقين: الفريق الأول: هو هذا الجيش الباغي المعتدي، ودينه النصرانية، وهو على دين سماوي، حرف أو لم يحرف، والفريق الثاني: هم القوم الذين ذهب إليهم أبرهة ليهدم البيت الذي يعظمونه وهم وثنيون، ولا شك عند الجميع أن الكتابيين خير من الوثنيين، ومهما غير الكتابيون في دينهم إلا أن عندهم مبدأ وأصل، ولهذا جاز للمسلم أن يتزوج الكتابية، ولا يجوز له أن يتزوج المشركة الوثنية، وإنما يستمتع بها بملك اليمين، وأما بعقد نكاح فلا، وكذلك يترك أهل الكتاب على دينهم، ويُقبل منهم أن يدفعوا الجزية؛ لأنهم سيتركون على بقايا كتاب عندهم، أما الوثنيون فلا يقبل منهم أن يدفعوا الجزية، ولا يقبل منهم إلا الإيمان أو السيف؛ لأننا إذا أخذنا منهم الجزية وتركناهم فسنتركهم على عبادة الأصنام، وهذا لا يقبل منهم، فهناك فرق بين الفريقين، ومع ذلك فإن الله أهلك من هم خير في العقائد وهم أهل الكتاب من أجل أولئك الوثنين الذين يعبدون الأصنام، مع أن الأولى والأحق بالنصرة هو الكتابي؛ لأنه على عقيدة، لها أصل وإن كانت محرفة، فلماذا؟ الجواب: إن الفارق الذي غلَّب جانب هلكة الكتابي هو الظلم؛ لأنه جاء ظالماً باغياً طاغياً يريد أن يهدم الكعبة، وماذا عملت به الكعبة؟ وإن أراد أن يؤذي قريشاً فماذا صنعت به قريش؟ هو بنى كنيسة وزخرفها وأراد أن يحج الناس إليها بدل الكعبة، فجاء رجل من عامة أهل البادية وتغوط داخلها، فغضب وأراد أن ينتقم، فيقال له: انظر أين الرجل الذي تغوط وانتقم منه هو، أما أن تأتي لتنتقم من جميع أهل مكة فهذا ليس فيه عقل ولا عدالة.
إذاً: أيها الحاج الكريم! إذا مررت بهذا الوادي وأسرعت فعليك أن تتساءل: لماذا أسرع هنا دون جميع الأماكن في الحج؟ سيقال لك: لأن هذا المكان حصل فيه كذا وكذا، إذاً: فاحذر أن تطغى، واحذر أن تظلم، واحذر أن تبغي على أحد، وتجنب الظلم، واذكر قوله سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) وقوله سبحانه في الحديث الآخر: (إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً) ؛ لأن الكافر إذا ظُلم، وطلب من يرفع الظلم عنه فلم يجد، فتوجه إلى الله، فهو عندما يتوجه إلى الله موقناً بأنه وحده القادر على أن يأخذ حقه، فهو في هذه اللحظة مؤمن بوجود الله، ومؤمن بقدرة الله، ومؤمن بعلم الله بظلمه وأنه سينصره، وهذا القدر يكفي في إجابة دعوته، وكما قالوا في قصة فرعون مع موسى: إن فرعون لما جاءه الغرق بدأ ينادي: يا موسى! يا موسى! عدة مرات، وموسى لم يلتفت إليه حتى لا يجيبه، فلما انتهى أمر فرعون عاتب الله موسى، فقال: يا موسى! فرعون يناديك عدة مرات، ولا تلتفت إليه لو دعاني مرة واحدة لأجبته؛ لأنه حينما يدعوه في تلك اللحظة فهو قد آمن، وهو يعلم أنه قادر على أن يعطيه دعوته.
إذاً: حينما يمر بذلك الحاج الموضع يتذكر ذلك التاريخ، وكما قلنا مثل ذلك في الرمل الذي كان في عمرة القضية عند أن تآمر المشركون على المسلمين لما بلغهم من ضعفهم، وفي موضوع السعي بين الصفا والمروة، في قصة طلب هاجر للماء، وكيف استطلعت من حولها فلم تجد أحداً، فاتجهت إلى الصفا ثم إلى المروة، كل هذه خطوات يجب على الحاج أن يستفيد منها بإحياء ذكراها، والتأسي بما تعطيه من مدلول.