قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم ركب حتى جاء الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات) ] .
يقول: (ثم ركب) أي: من مكان الصلاة من نمرة، (حتى أتى الموقف) أي: الموقف الذي في عرفات، ويرد على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) قالوا: نعم عرفة كلها موقف هذا للعموم، وحيثما وقف الحاج في جزء من أرض عرفات فقد تم وقوفه، ولكن الموقف هنا، أي: الموقف الذي اختاره صلى الله عليه وسلم، و (أل) للعهد، فهو تقدم من نمرة إلى ما يسمى الآن بجبل الرحمة، وهو عبارة عن مجموع صخرات ضخمة كبيرة، تقدم إليها ووقف عندها وجعلها بينه وبين الكعبة، فكان مستقبلاً جبل الرحمة والكعبة من وراء الرحمة في سمت اتجاهه، فيكون بهذا مستقبلاً كلاً من الصخرات والكعبة.
وهنا يبحث العلماء في هذا الموقف: هل يتعين الوقوف في هذا المكان على كل حاج؟ الجواب: بإجماع المسلمين لا يتعين على من أتى عرفات أن يذهب إلى ذلك الموقف، ويصح حجه ويتم بالوقوف في أي مكان من أرض عرفات، حتى ولو كان جالساً ولو كان نائماً، إذا كان قد أدرك لحظة من وقت الوقوف وشعر أنه بعرفات فقد تم حجه.
وهنا يتساءل الإنسان ويقول: ما دام أن الأمر كذلك وأرض عرفات كلها موقف فلماذا ذهب صلى الله عليه وسلم إلى هناك؟ قالوا: لأنه كان قد آذن الناس وأعلمهم قبل الخروج إلى الحج من المدينة، بل وأرسل رجالاً إلى القبائل على مياههم: (إني حاج، فمن أراد أن يحج معي فليوافني) فتوافد الناس إلى رسول الله فمنهم من أدركه بالمدينة وخرج معه، كما قال جابر رضي الله تعالى عنه: كنت أنظر عن يميني مد النظر، وعن يساري مد النظر ومن أمامي ومن خلفي، أي: أنهم عدد لا يقطعهم نظر العين.
فهؤلاء توافدوا إلى المدينة، وهناك من توافد إلى رسول الله وهو في الطريق ولقيه في الطريق، وهناك من قدم إلى مكة، بل إن هناك من قدم إلى عرفات مباشرة، ولم يكن قد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا يقولون: هؤلاء الذين جاءوا ليحجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروه ويأخذوا عنه أين سيبحثون عنه في عرفات؟ الجواب: لو لم يكن هناك مكان معلوم للجميع لتعذر على كل من أراد أن يراه البحث عنه في أرض عرفات المتسعة مع كثرة هؤلاء الخلق، فإذا كان له موقف معين وجبل الرحمة في عرفات والفضاء من حوله، وهو في الوسط مثل العلم، فإذا سأل سائل: أين رسول الله؟ قيل له: عند ذاك الجبل، فيكون الجبل علامة، أو علماً على موقفه ليذهب الذاهب إليه كيما يراه.
ومن تمام الإعلام وتيسير الوصول إليه أنه صلى الله عليه وسلم قضى يوم عرفات على ظهر راحلته وهي قائمة، إذاً: المكان كان معلماً بالجبل -جبل الرحمة- ومحيط الجبل كان معلماً بالناقة وهي قائمة وهو عليها، حتى قال بعض العلماء: هل الوقوف بعرفات على الدابة أفضل أو الوقوف بعرفات على قدميه أو جالساً أفضل؟ الجواب: هذا مما يذكره الأصوليون من أفعاله صلى الله عليه وسلم الدائرة بين الجبلة والتشريع، فبعضهم يقول: جلس على الناقة لأنه أريح له فالركوب أفضل، والآخرون يقولون: لا يعذب الحاج الناقة طيلة النهار بالجلوس عليها، بل عليه أن يريحها، وهذا دائر بين الاعتبارين، فمن اعتبر أن الوقوف على الناقة من أفعال الحج قال: الأفضل أن يقف على ناقته وراحلته، ومن رأى أن ذلك كان لقصد الإعلام قال: الوقوف في الأرض أولى من تعذيب الراحلة.