وهنا يبين لنا المؤلف رحمه الله أنه صلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، وجمع بينهما جمع تقديم، ولم يسبح بينهما أي: ولم يصل بينهما شيئاً، وهذا الجمع والقصر اختلف فيه العلماء: هل هو للنسك، أو هو للسفر؟ فالذين يقولون: هو للنسك قالوا: كل من حج سواء من أهل مكة أو حتى من أهل منى أو حتى من سكان أرض عرفات فإنه يقصر ويجمع من أجل النسك، والذين قالوا: إن هذا الجمع والقصر من أجل السفر قالوا: يقصر ويجمع الآفاقي الذي قدم من خارج مكة، أما أهل مكة الذين يحجون من مكة أو سكان منى الذين يحجون من منى فلا يجمعون ولا يقصرون، ومذهب أبي حنيفة على أن هذا الجمع من النسك، ولهذا لا يوجد عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله جمع بين صلاتين إلا في النسك -أي: بين الظهر والعصر جمع تقديم، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير- وما عدا ذلك من نصوص الجمع بين الصلاتين فحملها رحمه الله على الجمع الصوري، كما جاء في خبر المستحاضة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: (وإن استطعت أن تؤخري الظهر إلى آخر الوقت وتغتسلين وتصلين العصر في أول الوقت فافعلي) يعني: تغتسل للوقتين، وتجمع بينهما بالغسل، ولكنها توقع كل فرض في وقته، فتصلي صلاة الظهر في آخر وقتها، وتصلي صلاة العصر في أول وقتها، فتكون الصورة صورة جمع.
أما الأئمة الثلاثة رحمهم الله فقالوا: إن هذا الجمع والقصر للصلاة إنما هو للسفر، وأما كيف يقصر ويجمع أهل مكة وليست المسافة بين مكة وعرفات مسافة قصر؟ فأجابوا عن ذلك: بأن الغرض هنا هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أنه قد حج معه المكي والمدني والأعرابي الذي جاء من ضواحي عرفات، ولم يقل لهم: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، كما قال لهم ذلك في فتح مكة؛ لأنه في فتح مكة إنما صلى قصراً تبعاً لسفره من المدينة إلى مكة، وكان في طريقه إلى الطائف وإلى ثقيف، فكان يقصر بسبب السفر، فقال لأهل مكة: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) .
ولما جاء في الحج وهو يعلم أن معه من الحجاج من مسكنه قريب فلم يقل لهم: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) ، إذاً: الكل قد قصر وجمع معاً، سواء القادم من بعيد أو القادم من قريب.
وهناك من العلماء من يقول وهذا القول مروي عن الشافعي رحمه الله، وأخذ به الإمام ابن تيمية رحمه الله: أن كل ما سمي سفراً، واحتاج الإنسان فيه إلى زاد وراحلة فهو سفر تقصر فيه الصلاة، ولا يشترط له مسافة ولا يقال: لابد من مرحلتين، لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (تقصر الصلاة فيما بين مكة وجدة، وفيما بين مكة وعسفان، وفيما بين مكة والطائف) .
وتقدير هذه المسافات الثلاث تدور حول السبعين والثمانين كيلو، والذين حددوها حددوها بأربعة برد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وتقدر باثنين وسبعين كيلومتراً بالمقاييس الحالية.
والذي يهمنا في بيان حجة النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع وقصر، ونحن الآفاقيون إذا قدمنا إلى الحج لنا أن نجمع ونقصر كما فعل صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد قال: (خذوا عني مناسككم) إذاً: الكل متفق في أن القريب والبعيد في ذلك اليوم يجمع ويقصر، سواء قلنا: إنه للسفر أو للنسك، على ما تقدم من تفصيل في مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وفي أقوال الأئمة الثلاثة، وفي عدم بيانه صلى الله عليه وسلم بقوله: (أتموا) ، كما قال ذلك في فتح مكة، وعلى هذا فالجميع يقصر ويجمع الصلاتين في ذلك اليوم.