وما هو سبب هذا السعي؟ يتفق العلماء جميعاً أن سببه: هو سعي هاجر حينما جاء الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بها وبابنها إسماعيل ووضعهما في مكة، والقصة معروفة وسببها أن سارة غارت من هاجر، وسارة هي زوج إبراهيم عليه السلام، ومن أكرم نساء العالمين في زمانها، وهاجر كانت جارية، وهبها لها حاكم مصر لما عرضت عليه في قصتها الطويلة معه، فأخدمها هذه الجارية، فوهبتها سارة لإبراهيم، فحملت هذه الجارية من إبراهيم، وسارة الزوجة الحرة لم تحمل فغارت منها، فأبعدها إبراهيم عليه السلام منها، والحقيقة أن الأساس هو قدر الله سبحانه وتعالى؛ لينقل الدعوة من موطن لم تعد صالحة فيه إلى موطن جديد؛ لأن الدعوة كانت -كما يقال- في أرض الأنبياء؛ في فلسطين، والشام، ولكن طال المدى، ولم تعد تلك المنطقة صالحة لحمل الرسالة العالمية.
وعلم الله سبحانه وتعالى أنه سيأتي في هذه البقعة من يصلح لحمل الرسالة إلى العالم وتكون رسالته باقية إلى الأبد، فكان ذلك أولاً في نقل إسماعيل وهو طفل عند أن جاء به إبراهيم مع أمه ووضعهما في مكة وهي وادٍ قفر كما قال تعالى: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37] ولكن {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] ، وأحاطهما بأعظم وسائل التموين المتوفرة {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم:37] وهذه الدعوة كفيلة بإيوائهما، وكفيلة بالإنفاق عليهما، وكفيلة بالمعيشة الرغدة لهما، وبكل ما تتطلبه الحياة؛ لأن هذا مشوار طويل، فلما جاء إبراهيم بـ هاجر وإسماعيل لم يكن معهما إلا جراب من تمر وسقاء من ماء، فلما وضعهما في ذلك المكان رجع عائداً من حيث جاء، فأمسكت هاجر بزمام راحلته وقالت: إلى أين تذهب وإلى من تدعنا هاهنا؟ قال: لله.
من منا يترك ولده أو زوجه أو رجلاً بكل قواه في فلاة لا ماء فيها ولا نبات ولا أنيس ولا جليس؟! وقد كنا قبل مدة إذا تعطلت علينا السيارة في الطريق في الليل نجتمع مع بعضنا ونخاف ونحن في أمن، فإذا كان هذا واد غير ذي زرع، فمعنى هذا أنه غير مسكون، وليس فيه ماء، وهذه امرأة معها طفل، ولو كانت وحدها لكانت المسئولية أخف؛ لأنها مسئولية شخصيتها فقط، أما الآن فإنها تتحمل مسئولية شخصها ومسئولية الطفل الذي معها؛ لأن عاطفة الأمومة تتحرك فيها فقالت: لمن تدعنا؟ قال: لله.
إنه اليقين بالله فعلاً؛ لأن الله هو الذي وجهه ليأتي بـ هاجر وإسماعيل إلى هذا المكان: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] فهما ضيوف عليك يا رب! وفي جوارك ونعم الجوار.
ونحن لو أودعنا أسرة بكاملها في جوار أمير أو ملك لقام بإكرامهم، ولقام بمسئوليتهم فكيف برب العالمين؟! وقد أتى بهما ووضعهما عند بيته، الله أكبر! والله! إننا لنمر على هذه المواقف ونحن غافلون لا نعي منها إلا حروفها وذكراها، فعلينا أن نتأمل وأن نحكم العواطف والشعور الجياشة في هذا المقام، وفي هذه القصة قال تعالى: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:37] .
مهما كان السقاء، ومهما كان جراب التمر فلابد أن ينتهي وينفد، فلما انتهى وليس عندها مدد عطشت، وقل حليبها، وعطش الصبي وبكى، فأخذت تبحث عن الماء، أين تجد الماء؟ فلم تر شيئاً، ولم تر رائحاً ولا غادياً، فنظرت إلى الصفا وهو أقرب مكان مرتفع فصعدت عليه لتستطلع ما وراءه لعلها تجد مغيثاً، أو ترى ماءً، أو ترى رائحاً أو غادياً يسعفها بماء فلم تجد ولم تر شيئاً، فنظرت إلى الجهة الأخرى وأقرب مكان مرتفع إليها هو المروة، فنزلت من الصفا وصعدت على المروة لتستطلع ما وراء المروة كاستطلاعها إلى ما وراء الصفا، ولكن كان من طبيعة الأرض وجغرافية المكان أن إسماعيل كان في مكان منخفض، وأوطى مكان في مكة هو مكان الكعبة، وأوطى مكان في المدينة هو مكان المسجد النبوي، وهذا باتفاق.
فكان إسماعيل في مكان منخفض، ولما كانت هي في المرتفع على الصفا كانت قريبة وتراه، ولما انصبت قدماها في بطن الوادي صار مستوى نظرها دون مكان إسماعيل فلم تره، فانشغلت عليه فأسرعت حتى أتت إلى شاطئ الوادي من الجهة الأخرى فرأته فاستقرت، فمشت مشياً عادياً، فنظرت وراء المروة فلم تجد شيئاً، فرجعت من المروة إلى الصفا، وعادت من الصفا إلى المروة، وتركها الله تفعل ذلك سبع مرات لكي تتقطع علائق قلبها، وينعدم عندها سبب الرجاء من الخلق، فتوجهت إلى الخالق سبحانه بكليتها وبيقينها واضطرارها، فنظر الله إلى قلبها وإلى حالها فأسعفها حالاً لا بدلاء ولا بسقاء ولكن بجبريل الذي نزل فشق الصخر حتى نبع الماء، وأصبحت زمزم تفيض للعالم، وأصبحت مكة هي السكن والأمن الغذائي -كما يقولون- وفيها الاستيطان، كل ذلك متوفر فيها، ونحن الآن إذا سعينا بين الصفا والمروة إذا انصبت أقدامنا في بطن الوادي نسرع مع أن السبب قد ذهب، ولكن كما حصل الرمل لسبب قد انتهى وبقي الرمل، وكذلك حصل الإسراع في السعي وقد انتهى السبب ولكن بقي التشريع، ومن الطرائف التي سمعتها في المسعى: أن واحداً كان يسعى، وكان المطوف له طفل صغير، فلما جاء عند أول مكان السعي قال له المطوف: هنا اجر اجر، قال له: لماذا؟ قال: لأن سيدتنا هاجر كانت تسعى هنا وهي تطلب الماء لولدها، فقال له: هذه كانت تطلب الماء لولدها وأنا ما الذي يعنيني؟ المسألة هنا ليست شكلية، وإنما المسألة مسألة تشريع، لتعيش أيها الحاج! في مناسك الحج بروحك وإحساسك وشعورك لا بجسمك دون قلبك، فممكن أن نذهب ونأتي دون شعور، ولكن كل خطوة في مناسك الحج فيها دروس وفيها عبر، وهكذا سعى صلى الله عليه وسلم، ونحن نسعى كما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم.