قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ:) ] .
قوله: (خرج من الباب) يشعر هذا أنه كان هناك باب، وبعض التواريخ تقول: إن أول من بنى المسجد إنما هو عمر، والآخرون يقولون: عمر إنما وسعه وأدخل فيه دار الندوة، والله تعالى أعلم، فهنا خرج إلى الصفا، فلما وصل إلى الصفا رقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة وهو على الصفا، ثم نبه وقال: (أبدأ بما بدأ الله به، أو: ابدءوا بما بدأ الله به) ، أو أنهم سألوا: (من أين نبدأ يا رسول الله؟! قال: ابدءوا بما بدأ الله به) ، أو سألوا: (من أين تبدأ يا رسول الله؟! قال: أبدأ بما بدأ الله به) ومن هنا نجد أن المنهج العلمي في كتاب الله أنه سبحانه إذا قدم أحد المتماثلين كان لتقديمه دلالة أولولية في الموضوع، والصفا والمروة كلاهما غاية، والجمهور على أن الذهاب من الصفا إلى المروة شوط والعودة من المروة إلى الصفا شوط، إلا رواية عن ابن بنت الشافعي وغيره يقولون: إن الذهاب من الصفا إلى المروة والعودة إلى الصفا شوط واحد، وهذا ما يقول به ابن حزم، ولكن كما قال النووي: هذا شاذ مغاير لما عليه إجماع المسلمين.
فهنا صعد صلى الله عليه وسلم إلى الصفا، وقال: أبدأ بما بدأ الله به، وهذا الترتيب هو المنهج في كتاب الله، ومن ذلك ما جاء في الحدود: ففي حد السرقة قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة:38] وفي حد الزنا قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:2] ففي حد السرقة قدم الرجل؛ لأن الرجل في السرقة أقوى؛ لأنه يقاوم ويدافع، وأما المرأة في السرقة فهي ضعيفة، وفي باب الزنا قدم المرأة؛ لأنها هي السبب، وهي التي تغري الرجل كما قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] فلما كان الرجل أقوى في عنصر السرقة قدمه على المرأة، ولما كانت المرأة أقوى فاعلية في أمر الزنا قدمها على الرجل؛ لأن الرجل لا يمكن أن يزني بامرأة إلا إذا وجد منها الميل، أو جد منها الإغراء بنفسها.
إذاً: إذا وجدنا في القرآن الكريم متساويين فبدأ أو قدم ذكر أحد هذين المتساويين عرفنا أن لهذا المقدَّم خصائص أو أولوية في الموضوع، لهذا قال صلى الله عليه وسلم هنا (أبدأ أو ابدءوا بما بدأ الله به) فبدأ صلى الله عليه وسلم بالصفا.