يقول جابر رضي الله تعالى عنه: (حتى إذا أتينا ذا الحليفة، ولدت أسماء بنت عميس) وهي زوج أبي بكر رضي الله تعالى عنه ولدت له محمداً، وهي في تلك الحالة مقبلة على الإحرام، فتساءلت: ماذا تفعل؟ لأن المحرم يذكر الله ويصلي ويطوف، والحائض ممنوعة من ذلك، والنفساء مثل الحائض، فماذا تفعل؟ وهل يصح منها الإحرام وهي نفساء أو لا يصح منها؟ فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية في الموطأ: (فسأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائلاً: إن أسماء نفست، فماذا تفعل؟ فقال: مرها فلتغتسل ولتستثفر بثوب ولتهل) وفي القاعدة الأصولية: (الآمر للآمر آمر للمأمور) فهل يا ترى! تنطبق هذه القاعدة في قوله صلى الله عليه وسلم: (مرها فلتغتسل) وهل يكون الأمر لـ أبي بكر أو لـ أسماء؟! الصحيح عند الأصوليين أن الأمر لـ أسماء وإنما جاء من طريق أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ومثل هذا ما جاء في قضية عبد الله بن عمر لما طلق زوجته وهي حائض، فأخبر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له: (مره فليراجعها) فراجعها عبد الله بن عمر إلى آخر الحديث.
ومن هنا نعلم أن الحيض والنفاس لا يمنعان المرأة من أن تهل بالحج أو بالعمرة، أي: من أن تهل بنسك، ولها -كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها- أن تصنع كل ما يصنعه الحاج، غير أن لا تطوف بالبيت حتى تطهر، فتلبي مع الناس، وتذكر الله مع الناس، وتحمد وتسبح وتهلل وتفعل كل ما يفعله الحاج، إلا أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، وكذلك إذا وصلت إلى مكة لا تسعى حتى تطهر؛ لأن السعي لا يكون إلا بعد طواف مشروع، والطواف المشروع لا يكون في حالة الحيض أو النفاس، إذاً: لا تسعى؛ لأن السعي مرتب على الطواف، والطواف مرتب على الطهر.
وقوله: (مرها فلتغتسل ولتستثفر) الثفر في الأصل هو: الحبل الذي يوضع تحت ذنب البعير ليمسك الرحل من أن يتزحزح إلى الأمام، وكذلك صورة ما تفعله المرأة فهي تشد على نفسها مثل الحزام، ثم تأخذ خرقة، فترم بها بين فخذيها وتربطها من الخلف ومن الأمام، ليكون ذلك مانعاً من تساقط الدم عليها أو على الأرض، خاصة في المسجد، وليبقى الدم في محله ولا تتلوث به أو ينجس ثيابها أو بدنها، فأرشدها صلى الله عليه وسلم إلى ما تعمله تحفظاً من دم النفاس.
ودم النفاس كما يقول العلماء: لا حد لأقله، وأما أكثره فيختلفون فيه ما بين الأربعين يوماً وبين الخمسين يوماً، إذاً: المسافة طويلة، ولكن متى ارتفع الدم عنها ولو بعد ساعة أو يوم أو أسبوع فعليها أن تغتسل؛ لأنها قد أصبحت طاهرة، ولها كل ما هو للطاهر التي لا حدث عليها، وهنا مضت أسماء مع الحجاج.
وهكذا فقد أخذت قضية الحيض والنفاس حيزاً في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبحان الله! من حكمة الله أن تقع تلك الأحداث في صحبة رسول الله وفي بيته، فهذه أسماء زوج الصديق، والصديق مع رسول الله دائماً كما نعلم جميعاً، وبيتهما كأنه بيت واحد، وحينما جاءوا إلى سرف في أثناء الطريق حاضت عائشة، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فوجدها تبكي، فقال لها: (ما يبكيك لعلك نفست؟! -لأن الحيض يسمى نفاساً أيضاً، للتنفيس بخروج الدم- قالت: نعم، قال: لا عليك، هذا أمر كتبه الله على بنات حواء) وفي هذا رد على من يقول: إن الحيض لم يوجد إلا في بني إسرائيل فنقول: لا، هو موجود في بنات حواء عموماً؛ لأن الخلقة للمرأة من حيث هي أنها تحيض، وهذا كما يقال: دورة الرحم الشهرية، وأما دورة الرحم السنوية فهي بالحمل.
وقوله: (قولي: لبيك اللهم! حجة في عمرة) لأنها كانت قد أهلت من ذي الحليفة بالعمرة، وبكت لأن الوقت قصير، ومن سرف إلى مكة مرحلتان، والوقوف بعرفة قريب، وليس عندها مدة تطهر فيها قبل الصعود إلى عرفات، فلا تتمكن من إتمام عمرتها، فبكت لهذا السبب، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (لا عليك قولي: حجة في عمرة) يعني: حتى تصيري قارنة، وهكذا الحيض الذي يطرأ على الإحرام لا ينقضه ولا يتعارض معه، بل تمضي المرأة في إحرامها وإن طرأ عليها حدث الحيض أو النفاس، كما أنه في بداية إحرامها لا يمنعها الحيض ولا النفاس من عقد الإحرام.
وفي نهاية الحج بعد النزول من عرفات، وحينما أراد صلى الله عليه وسلم العودة إلى المدينة كانت نوبة صفية في ذلك اليوم، فسأل عنها، فقالت عائشة: إنها حائض، فقال: (عقرى حلقى، أحابستنا هي) يعني: أننا سننتظر حتى تطهر لتطوف بالبيت طواف الإفاضة، فقالوا له صلى الله عليه وسلم: إنها قد طافت، يعني: طافت قبل أن تحيض، قال: (فانفروا إذاً) فبين صلى الله عليه وسلم حكم حيض المرأة في بداية الإحرام عند الميقات، وفي أثناء الطريق بين الميقات ومكة، وفي نهاية الحج قبل الطواف بالبيت طواف الإفاضة، وبهذا اكتملت دورة معالم حيضة المرأة بالنسبة لإحرامها.