قال المؤلف رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: (ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران ولا الورس) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] .
بعدما قدم المؤلف رحمه الله التجرد والاغتسال للإهلال وموقع الإهلال ومكانه، كأنه قيل: بعدما تجرد واغتسل لابد أن يلبس شيئاً، فجاء بهذا الحديث الشامل العام في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا يلبس المحرم؟) وهذا الحديث من نماذج أسلوب الحكيم في الإجابة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سُئل: ماذا يلبس؟ فأجاب: (لا يلبس) ، أي: سُئل عن بيان ما يجوز للمحرم أن يلبسه فكان الجواب عكس السؤال: لا يلبس المحرم كذا وكذا.
وقد ذكر العلماء أن القاعدة الأساسية في الجواب أن يطابق السؤال، ولكن المسئول إذا كان حكيماً راعى حالة السائل، فقد يزيده عما سأل، وقد يغاير ويجيبه عن غير ما سأل؛ ليبين له أن الأهمية فيما تضمنه الجواب، أو يختصر في الجواب ليسهل على السائل فهم الجواب.
ومن مغايرة الجواب للسؤال، ما جاء في كتاب الله عند قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:215] ، فهم يسألون عن ماذا ينفقون؟ وفي آية أخرى: {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] ، أي: الزائد عن حاجتكم، وهذا مطابق للسؤال، ولكن هنا قال: {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:215] ، فقد سألوا عن نوعية ما ينفقون فأجابهم بأن دلهم على جهة ما ينفقون عليه؛ لأن معرفة ذلك أهم من معرفة ماذا ينفقون.
وكذلك من الزيادة في الجواب على السؤال حديث: (قالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟) فالسؤال محدود عن صحة الوضوء من ماء البحر، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: (هو -أي: البحر- الطهور ماؤه الحل ميتته) ، مع أنهم لم يسألوا عن ميتته أحلال هي أم حرام؟ ولكن نظر صلى الله عليه وسلم إلى السائل عن صحة الطهور من ماء البحر ورأى أن تحريم وتحليل ميتة البحر أشد إشكالاً عليهم، فإذا كانوا قد استشكلوا الوضوء من ماء البحر لكونه مالحاً فلأن يستشكلوا حِل ميتته من باب أولى، فزادهم فيما يرتبط بركوب البحر.
وهنا سُئل صلى الله عليه وسلم: ماذا يلبس المحرم؟ قال بعض العلماء: لقد أجابهم بما كان ينبغي أن يتوجه السؤال إليه، وهو: ما الذي يمتنع علينا لبسه في الإحرام؟ فكأنه يرشدهم إلى ما كان ينبغي أن يجعلوا السؤال عنه، وهو: ما الذي نجتنبه إذا أحرمنا؟ وقد عللوا ذلك بأن الأصل جواز لبس أي شيء، فالأصل في اللباس إباحة كل شيء حتى يأتي المانع، كما نهي عن لبس الحرير والذهب للرجال، فالأصل في الأشياء الإباحة ما لم يأت الدليل المانع، لكن اللباس في الإحرام من حيث هو خرج عن هذه القاعدة؛ لأن تاريخ لبس المحرم في الجاهلية كان مغايراً، فقد كانوا في الجاهلية يطوفون بالبيت عرايا لا يلبسون شيئاً رجالاً ونساء، وهذا كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: من شدة مكيدة الشيطان للإنسان؛ لأنه ما وجد مصيدة أشد وأقوى للرجال من النساء، ويقول: إن فتنة الرجل بالمرأة من أول ما وجد جنس الإنسان، فقد كان آدم عليه السلام في الجنة منعماً مطمئناً في عيشة رغيدة، فلما طرد الشيطان حسد آدم على بقائه، فأراد أن يكيد له ليخرجه ليستويا في الحرمان، فجاءه عن طريق حواء وأغراه حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، فخرجا معاً، قال تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22] .
والعجيب أن الشيطان جاء لآدم بالطريق الذي يريده ليكون انقياده أهون عليه، قال تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ} [طه:120] ، فكلمة (أدلك) تعني: أنه يريد أن ينصحه.
(هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] ، وهذا هو ما يريده آدم، وتخيل إنساناً في الجنة منعماً، فإن أخوف ما يخافه هو الخروج منها، فقال له: أنا أدلك على الطريق الذي يؤمنك من هذا الخوف، فدله على ما أراد، وجاء عن طريق حواء وحصل ما حصل، قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38] .
ثم بعد ما نزل آدم إلى الأرض وبدأ يكون مجتمعه جاءت فتنة المرأة، فكان قتل أحد ولديه لأخيه بسبب المرأة، بسبب أخته، ثم واصل الطريق معه عن طريق المرأة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء) ، وكما قال جرير: يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا وهذا هارون الرشيد ينادي جارية صغيرة ويقول لها: تعالي، فتقول له: لا! خليفة المسلمين الذي سمعت به الدنيا! ومع ذلك جارية صغيرة تقول له: لا! فتمثل بهذه الأبيات: ما لي تطاوعني البرية كلها وأطيعهن وهن في عصياني ما ذاك إلا أن سلطان الهوى وبه قوين أعز من سلطاني فسلطان الهوى أعز من سلطان الملك، ومما يذكر أن جورج الخامس أو غيره نزل عن عرشه لامرأة! يقولون: لم تكن بارعة في الجمال، ولكنها كانت بارعة في الظرف والأدب والحديث، فأراد أن يتزوجها، فقيل له: لا يمكن؛ لأن الملك في انجلترا لا يتزوج إلا من بيت الملك، فأنت مخيّر بين الملك وامرأة، فقال: خذوا الملك كله.
فتنازل عن عرش بريطانيا وتزوج بالمرأة؛ لأن سلطانها أعز عليه، ولهذا يقول صريع الغواني: وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز فدمه متحرز حرام لكنها تقتله.
فالمقصود: أن الشيطان اتخذ المرأة وسيلة لإغواء الرجل، فما زال يغوي العرب إلى أن جعلهم في تلك الصورة التي يستنكرها كل عاقل حتى صاروا يطوفون بالبيت رجالاً ونساءً عرايا، حتى يذكرون عن بعض النسوة أنها قالت وهي تطوف: اليوم يبدو جله أو كله وما بدا منه فلا أحله وكيف وصل بهم إلى هذا الأمر الشنيع؟ وصل إلى ذلك بحيلة، فقد جاءهم وقال: أنتم جئتم تحجون وتطوفون تريدون المغفرة من الذنوب؟ فقالوا: هذا كلام صحيح.
فقال: إن ثيابكم التي تلبسونها في الطواف قد باشرت معكم وشهدت عليكم ارتكاب المعاصي، فكيف تطوفون بالبيت وهذه الثياب عليكم شاهدة بمعاصيكم؟ فقالوا: وما هو الحل إذاً؟ قال: اخلعوها، وطوفوا مجردين من كل شيء.
فقالوا: لقد أصبت.
وأضلهم بهذه الحيلة، وكان الواحد منهم إذا استحى أن يطوف عرياناً ولم يستطع وتأبى عليه مروءته ذلك، كان عليه أحد أمرين: إما أن يستعير ثوباً من جيران البيت الحرام فيلبسه، على أن جيران البيت لا ذنوب ولا معاصي لهم، أو لأنهم مكرمون عن هذا.
وإما أن يشتري ثوباً جديداً ما شهد معصية، فيلبسه ويطوف به، فإذا أنهى طوافه خلعه ورماه عند البيت ويكون هدية لسدنة البيت.
ثم جاء الإسلام وكرم الإنسان، وقد كان المسلمون يعلمون بأن المشركين كانوا يطوفون عرايا، ففي سنة تسع لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر يحج بالناس قال له: (ولا يحجنّ بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان) ، فما ألغي هذا الأمر إلا سنة تسع من الهجرة بعدما فتحت مكة بسنة.
إذاً: هم يعلمون أن الطواف في الجاهلية كان يقع والناس عرايا، إذاً ماذا يلبسون؟ فالسؤال منهم عما يلبس المحرم هو عين الصواب، والجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم المغاير للسؤال الصحيح السليم إنما هو لبيان وحصر ما يمكن تجنبه، ومعلوم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
أيضاً قالوا: إن ما يمنع المحرم من لبسه محدود ومحصور، وما يجوز له أن يلبسه مطلق دون حد أو حصر، فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا هذه المذكورات وما عداها فالبسوا ما شئتم.
وسواء كان ذلك في عمرة أو كان ذلك في حج، وقوله (لا تلبسوا) خطاب للرجال يخرج عنه النساء، وإن كان المؤلف لم يورد ما تجتنبه المرأة، لكنه معروف عند الجميع وفي غير هذا الموطن، وقد ذكره المصنف في فتح الباري في شرح صحيح البخاري.
وقوله: (لا تلبسوا القمص) القمص: جمع قميص، وهو كناية عن الثوب، سواء كان القميص الذي يلبس مع البدلة، أو مع السروال الطويل، أو كان نفس الثوب المعروف، فإنه يسمى ثوباً ويسمى قميصاً، فما كان على هيئة البدن بكمين فهو قميص.
ويراد بالقميص كل مخيط على هيئة البدن وله كمان، وسواء كان هذا القميص مخيطاً بيد أو بمكينة أو ملصقاً بلصقة أو مشغولاً بالإبرة، أو نحو ذلك؛ لأن الغرض منع لبس المحيط بالجسم، فالنهي هو عن المحيط لا المخيط، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.