ومع هذا كله يرى كثير من المتأخرين: أن أفضل تلك الأنساك الثلاثة في الوقت الحاضر ما كان أيسرها على المهل، فانظر إلى ظروفك، وإلى وضعك، وما هو الأيسر عليك فيكون هو الأفضل في حقك، ونجد بعض الناس يأتي إلى مكة في اليوم السابع أو في ليلة الثامن، فيأتي متمتعاً، ويرهق نفسه: يطوف ويسعى ويتحلل، ومن الغد يهل بالحج، لكن مثل هذا ما دام أنه قد جاء متأخراً فلو دخل مفرداً وطاف طواف القدوم، وسعى سعي الحج مقدماً، وإن شاء أخره، ثم يتم حجه على راحته، ويقال: لو ضاق الوقت أكثر من ذلك فهل عندهم متسع للعمرة؟ لا.
إذاً: القول الأخير: كما سمعنا من والدنا وشيخنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أن الأفضلية أمر سهل، ولكن المهم تثبيت الأنساك الثلاثة، ولا أنسى مجلساً لوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه مع سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم في خيمته بمنى صبيحة يوم العيد، وقد جرت العادة أن المشايخ يُسلم بعضهم على بعض، وكان من ضمن خيام المشايخ خيمة الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ ابن باز، والشيخ عبد الملك، والشيخ عبد اللطيف، وكبار المشايخ، فمررنا -وكنت بفضل الله في شرف صحبة الشيخ الأمين - فسلم على الشيخ محمد وهم يشربون القهوة، فإذا بالشيخ محمد يسأل الشيخ الأمين: بلغني يا شيخ -وكان يوقره جداً- أنك حججت مفرداً، ألكونه أفضل عند مالك؟ فقال رحمه الله: نعم يا سماحة الشيخ! جئت مفرداً وقصداً فعلت ذلك، ولكن ليس لكونه مذهب مالك، قال: وقصداً فعلت ذلك، لماذا؟ قال: لأنه بلغني أن هناك أشخاصاً متطرفين، لا يكتفون ببيان الأمر الذي يرونه، ويقولون: إن التمتع أفضل، بل يجبرون الناس عند المروة على الحلق، ويحللونهم من الإفراد بالحج، وأنا لا أملك السلطة لأمنع هؤلاء، والناس يأتون من أقطار الدنيا منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل يهل بما تيسر له من نسك، وما وجدنا أحداً قط أمر أحداً بهذا عملياً، ثم لقد جاءت النصوص عن أبي ذر وعن غيره -فليراجع طالب العلم بداية المجتهد- لما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإدخال العمرة في الحج، قام رجل وقال: (يا رسول الله! ألعامنا هذا؟ -يعني دخلت العمرة في الحج هكذا- قال: لا، بل للأبد وأبد الأبد) ومع ذلك، لم يقم أحد يلزم الناس بأن يتحللوا من الإفراد إلى العمرة، وأنا لا أملك السلطة، فجئت مطبقاً لذلك عملياً، ومن رآني أو سألني فهذا جهدي، وما كان بعد ذلك فلا أملكه، ثم يا صاحب السماحة! إن النصوص كذا -وأورد كل ما ذكرته وأضعاف أضعافه معه- وسماحة الشيخ محمد الله يغفر لهم جميعاً ويرحمهم ويجزيهم عنا أحسن الجزاء مصغ إلى آخر كلمة، فما زاد على أن قال: أحسنت جزاك الله خيراً.
إذاً: نحن نعيد هذا القول، أو نورد هذه القضية لأننا نعلم أن كثيراً من طلبة العلم قد يتطلع إلى مثل ذلك متأثراً بقوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي) ويتركون بقية الملابسات الأخرى، والواجب على طالب العلم ألا يستقل برأيه، وإنما يرجع إلى أقوال العلماء سواءً كانوا من أهل الحديث، أو كانوا من الفقهاء ومن الأئمة الأعلام، ويأخذ أقوال الجميع ولا ينفرد برأيه.
وبالله تعالى التوفيق.