والقسم الثاني من الحديث: (والحج المبرور) يرى بعض العلماء أن بر الحج إنما هو: إيفاء أركانه وواجباته، أي: الإتيان به على الوجه الأكمل.
ويرى البعض أن الحج المبرور ما قام فيه الحاج بإطعام الطعام، وإفشاء السلام، ولين الكلام مع رفقائه، وهو راجع إلى الوجه الأول أيضاً؛ لأن من تمام الحج الرفق بالمسلمين، وكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (أن تعين الرجل على دابته، تحمله عليها وتدله على الطريق، كل ذلك صدقة) وهكذا الحج، ولما كان هذا الجمع من كل قطر على اختلاف العادات والبيئات، فتختلف طبائع المجتمعات عن بعضها؛ جاءت آداب الحج في كتاب الله لتقضي على كل تلك الفوارق، وتمنع كل أسباب النزاع، ليظل الحجيج متآلفين متآخين: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] لأن هذه الثلاثة تؤدي إلى الفرقة، وإلى النزاع والشقاق، وهم إنما جاءوا ليشهدوا منافع لهم، ولا يتم شهود المنافع مع وجود النزاع والخصومات، ومع وجود الرفث، فكيف يقول: لبيك، ثم تجده يرفث عند النساء.
إذاً: الحج المبرور هو: ما وُفِّي على خير ما يكون، من إتمام واجباته، وسننه، ومندوباته، وأركانه.
والبعض يقول الحج المبرور: ما اجتنب فيه المآثم، وهذا راجع للأول؛ لأن من أدى الحج بكامل أركانه، وواجباته، وسننه؛ يكون بعيداً عن الأخطاء، والآثام في هذه السفرة المباركة.
وبعضهم قال: هناك ميزان، ننظر إلى الحاج حينما خرج من بلده وجاء إلى الأراضي المقدسة، وأدى المناسك.
إلخ، ثم عاد إلى بلده، كيف صارت حالته؟! نزن الحالة الأولى مع الحالة الثانية، هل هو أحسن حالاً في سلوكه في منهجه في أمانته في معاملاته في محافظته على العبادات في وفائه للحقوق أهو خير مما ذهب أو هو كما ذهب رجع؟ فإذا كان خيراً مما ذهب، فيكون قد استفاد من رحلة الحج؛ لأن رحلة الحج فيها تهذيب للنفس، ويظهر ذلك في محظورات الإحرام، على ما سيأتي إن شاء الله.
ومهما يكن من شيء فهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحج المبرور على ما جاء فيه أن جزاءه الجنة، وجاء في بعض النصوص، لكنها بأسانيد ضعيفة: (إطعام الطعام وإفشاء السلام) ولكن نقول: كل ذلك من فعل الخير في أداء الحج.
قوله: (ليس له جزاء إلا الجنة) ، أعظِم بهذا الجزاء! يخرج في رحلة، أياماً وأسابيع أو أشهراً فيعود بهذا الجزاء وهو الجنة، ومعنى ذلك: أنه يستحق عند الله -عطاءً منه- أن يدخله الجنة، إذن: عليه أن يحافظ على تلك النعمة وعلى هذا العطاء، وأن لا يحرم نفسه منه، أي: بما يضاد موجباتها، فإذا ما أنعم الله على إنسان بأداء الحج، وليعلم كل مسلم أن الإتيان لأداء الحج إنما هو فضل من الله عليه، لا بوفرة ماله، ولا بقوة بدنه، ولا بعزة جاهه، ولا سلطانه، إنما هي نعمة من الله.
ولذلك يقول العلماء: أول ما بنى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام البيت ورفع القواعد، أوحى الله إليه: أن يا إبراهيم! أذن في الناس بالحج، فقال: يا رب! وأين يذهب ندائي؟! وكيف يبلغهم صوتي؟! قال: عليك النداء وعلينا البلاغ، فصعد إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس وقال: أيها الناس! إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه، فلبى كل من كتب الله له الحج، حتى الذراري في أصلاب الآباء إلى يوم القيامة، ومن لبى مرة حج مرة، ومن لبى مرتين حج مرتين إلى آخره، فمن لبى في ذاك الوقت وهو في عالم الذر، قبل أن يوجد إلى الدنيا، فهو سيلبي حينما يوجد فيها.
وهكذا عندما يأتي الحاج ويشرع في نسكه يكون شعاره: لبيك اللهم لبيك، و (لبى) في اللغة بمعنى: الإجابة، والإقامة على الطاعة، إذا ناداك إنسان فقلت: لبيك، معنى ذلك: أنا هاهنا وتحت أمرك، أجبتك في دعائك، وممتثل لأوامرك، فالحاج حينما يشرع في نسكه يعلن قائلاً: لبيك، إنما هي إجابة لذاك النداء، الذي بلغه عن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة السلام.
إذاً: مجيء الحاج فضل من الله عليه، وكل إنسان يعلم كم خلف في قومه ممن هو أغنى منه، وأقوى بدناً، وأعز سلطاناً، ولم يقدر له الحج! فإذا لم يقدر له الحج فلن يحج، ومن أتى فبفضل من الله، (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) والله سبحانه وتعالى أعلم.