جمع عمر القراء واستمع إليهم، فمن كان سريع القراءة أمره أن يقرأ في الركعة بثلاثين آيةً، ومن كان بطيئاً أمره أن يقرأ بعشرين آيةً، ومن كان متوسطاً أمره أن يقرأ بخمس وعشرين آيةً، وأمره أن يصلي عشرين ركعةً ويوتر لهم بركعة فيكون الجميع إحدى وعشرين ركعةً، واستمر الأمر على ذلك باتفاق الصحابة الموجودين بما فيهم عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، فهذه الصورة التي أوجدها عمر حصلت باتفاق الخلفاء الراشدين الثلاثة، عمر، عثمان، علي رضي الله تعالى عنهم، وبمشهد وإقرار وموافقة من بقية الصحابة الموجودين بالمدينة.
واستمر الأمر على ذلك إلى أن جاء زمن عمر بن عبد العزيز، فزيد فيها ستة عشر ركعة؛ لأن أهل مكة كانوا يصلون عشرين ركعة، ولكنهم كانوا يطيلون الجلسة بين الركعتين فكان النشيط منهم يقوم ويطوف بالكعبة سبعة أشواط، ويصلي سنة الطواف ركعتين، فرأى أهل المدينة أنه ليس عندهم كعبة يطوفون بها، وأرادوا المنافسة فاستبدلوا بدل الطواف ركعتين، وصلوا مكان كل ترويحة أربع ركعات، وإذا كانت الصلاة عشرين ركعة وفي كل أربع ركعات ترويحة فسيكون مجموع الترويحات خمس ترويحات، وستكون الفجوات والاستراحات بين الخمس ترويحات أربع استراحات، فقالوا: إذاً: أهل مكة فازوا بالطواف وركعتي الطواف، فنعادل الطواف بركعتين، وسنة الطواف بركعتين، فصارت أربعاً في أربع ترويحات والمجموع ستة عشر ركعة، فأضافوها إلى العشرين وصارت ستاً وثلاثين ركعة، واستمرت على ذلك إلى القرن الخامس الهجري.
ولما كان في القرن السابع جاء الإمام أبو زهرة وهو من أئمة الحديث فتولى الإمامة في المسجد النبوي الشريف، وأراد أن يلغي ما وضعه بعض الناس من أجل السياسة فألغى الست عشرة ركعة، وقال: تبقى المدينة مثل مكة، فأراد أن يجعلها عشرين ولكن لوجود المخالفة ومن أجل أن يبقى الاتفاق أيضاً جعل العشرين في أول الليل مثل أهل مكة، وجعل الست عشرة في آخر الليل باسم القيام، وأصبحت التراويح في أول الليل عشرين ركعة، والقيام في آخر الليل ست عشرة ركعةً، إلى أن جاءت الحكومة السعودية، فألغت من الست عشرة ستاً، وجعلتها عشراً تخفيفاً على الناس، وعممتها في عموم المملكة توحيداً للعمل، واستمرت بحمد الله إلى الآن، عشرون ركعة في أول الليل وعشر ركعات في آخره.
وعمر رضي الله تعالى عنه لما جمعهم على إمام واحد جاء إلى المسجد بعد ليلة أو ليلتين ونظر فإذا الناس في جماعة واحدة، فقال: نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها خير منها، أي: أن صلاة المرء في بيته في جوف الليل خير من حضور تلك الجماعة؛ لأنه إذا صلى في بيته يؤنس أهله، ويجلب البركة لبيته، وتكون هناك رحمات تتنزل في البيت، وتكون صلاته بعيدة عن الرياء وعن السمعة.
ثم أجمع العلماء على أن من قام رمضان بركعتين أو بأربع أو بست أو بعشر أو بعشرين أو بأربعين فإنه يجوز له ذلك، فليس في ذلك حد محدود، ولكن يكون عمله في شخصه فلا يعترض على غيره ولا يدعوا غيره إلى ما يراه لنفسه؛ لأننا أخيراً وجدنا بعض الناس يلومون على هذا العمل ويعيبونه ويقولون: هي ثمان ركعات لا يزاد عليها لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على ثمان ركعات) ، ولكنها رضي الله تعالى عنها تقول: (يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن) فقد كان يقرأ في الركعة البقرة وآل عمران والنساء، ثم يركع نحواً من ذلك، أما الذين يقولون: لا نزيد على الثمان ركعات، فلا يقرءون في الركعة حتى سورة تبارك التي هي ثلاثون آيةً، كما أمر عمر القارئ السريع أن يقرأ بها، فكيف نوفق بين ذلك؟ إن قلتم: لا يزيد على الثمان، فاجعلوها كصلاة رسول الله في الطول، وإذا صليتم على تلك الكيفية فيكفي أربع، وكذلك أيضاً لابد أن تداوموا على ذلك في رمضان وفي غير رمضان، لا أن تتركوا كل ذلك طيلة العام ثم تأتون إلى رمضان وتقولون: لا تصلي إلا ثمان ركعات، ثم تجعلونها ثمان ركعات شكلية لا كالثمان التي تقدمت صفتها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: عمر رضي الله تعالى عنه كان يعلم الثمان، ويعلم بأن الرسول صلى في بعض الليالي ثمانياً، وفي بعضها زاد على ذلك؛ لأنه صلى في بعض الليالي إلى ثلث الليل، وفي بعضها صلى إلى نصف الليل وفي بعضها صلى إلى ثلثي الليل، حتى قيل له: (يا رسول الله! لو نفلتنا بقية ليلتنا -أي: ما دام أننا صلينا إلى الثلثين- فقال: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته) .