قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صومٍ يصومه أحدكم) ، رواه مسلم] هذه الأحاديث الآتية هي نهاية ما ذكره المؤلف في كتاب الصيام، في باب صوم التطوع وما نهي عن صيامه، وقد ذكر لنا ما يستحب صومه وهي ستة أيام من شوال مع رمضان، وعرفة وعاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، والإثنين والخميس، وذكر لنا مما لا يصح صومه يوم العيدين، وأيام الشريق، إلا لمن لم يجد هدياً في التمتع، ثم جاء إلى يوم الجمعة، فجاء فيه بالنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
منطوق هذا الحديث هو النهي عن أن يخصص الإنسان ليلة الجمعة بقيام، أو بتلاوة، أي: بإحيائها بعبادة دون سائر ليالي الأسبوع، وكذلك النهي عن تخصيص صوم يوم الجمعة وحده بصيام دون بقية أيام الأسبوع، إلا إذا صادف يوم الجمعة يوم صوم أحدكم، مثلاً: إنسان متعود أن يصوم كل أول يوم في الشهر، أو كل أحد عشر في الشهر، أو كل واحد وعشرين في الشهر، كما كان يرى مالك رحمه الله: أن صوم ثلاثة أيام من كل شهر يكون على قسمين: قسم يوزع على عشرات أيام الشهر من كل عشرة أيام يصوم يوماً، والقسم الثاني: أن يصوم ثلاثة أيام في هذا الشهر من أول الأسبوع ويصوم ثلاثة أيام في الشهر الثاني من آخر الأسبوع، يعني: في الشهر الأول يصوم السبت والأحد والاثنين، وفي الشهر الذي يليه يصوم الثلاثاء والأربعاء والخميس ويقول: لا يهجر شيئاً من الأيام عن الصوم، فإذا كان يصوم يوم واحد ويوم أحد عشر، ويوم واحد وعشرين، وهذه أيام منفردة فهو متعود أن يصوم هذه الأيام الثلاثة على انفراد، فصادف في بعض الأشهر أن يوم واحد هو يوم جمعة، أو يوم أحد عشر، أو يوم واحد وعشرين أنه يوم جمعة، فحينئذٍ لا بأس أن يصومه ولو كان منفرداً؛ لأنه ما صامه لكونه يوم الجمعة، وإنما صامه للوعد الذي قطعه على نفسه والعمل الذي داوم عليه، هذا منطوق هذا الحديث، وسبق أن أشرنا إلى أن مالكاً رحمه الله يقول: إنه لا بأس بصوم يوم الجمعة، ويقول: ولقد رأيت أهل العلم ببلدنا يتحرون صيامه، فقول مالك يدل على استحباب صوم يوم الجمعة مفرداً، وهذا الحديث يدل على النهي عن صومه مفرداً، وسيأتي هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم (نهى عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده) يعني: حتى لا تحصل الخصوصية.
والمسألة فيها بحث كما يقولون، قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار: وقد اختلفت الآثار الواردة في إفراد صوم يوم الجمعة، وساق النصوص التي جاءت بالحث على صومه وإباحة صومه وحده، قال: وروى أبو سعيد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وما رأيته يوم الجمعة قط إلا صائماً) ، وكذلك روى عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما رأيت رسول الله يوم الجمعة إلا صائماً) ، وذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يديم صوم يوم الجمعة، وذكر عن ابن عمر مثل ذلك، ثم جاء بالنصوص الأخرى التي فيها أنه لا يفرد صوم يوم الجمعة، وإنما يصام معه يوم قبله أو يوم بعده، من ذلك: أن امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يفطر، وكان في يوم الجمعة فقال: (هلمي إلى الفطار فقالت: إني صائمة، قال: أصمت بالأمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري) .
فهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم في قضية عينية بالذات، وجاء عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه سئل وهو بمكة: هل سمعت رسول الله ينهى عن إفراد يوم الجمعة بصوم؟ قال: إي ورب هذه البنية! أي: الكعبة.
وكذلك جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (ما أنا نهيت عن صوم يوم الجمعة وإنما نهى عنه محمد صلى الله عليه وسلم) .
فهذه هي النصوص الموجودة من جانب في عدم إفراده، ومن جانب في صحة بل واستحباب إفراده، ويقول ابن عبد البر: إن بعض الآثار التي جاءت بالحث على صوم يومٍ قبله وصوم يومٍ بعده، في أسانيدها مقالات، وأما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم يوم الجمعة، فأجاب المانعون عن حديث أبي سعيد: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة مفطراً قط) ، قالوا: لعله كان يصوم يوماً قبله، أو يصوم يوماً بعده جمعاً بين النصوص، وكذلك الآثار، والذين يجيزون قالوا: هذا تأويل لم يأت في الحديث، ومظنة ليس عليها دليل.
إذاً: المسألة خلافية، والأولى في ذلك ألا يفرد وإن كان مالك رحمه الله ذكر أن أهل العلم في عصره كانوا يتحرون صومه، ويجعلون ذلك لفضيلة هذا اليوم، ولكن المانعون من صوم يوم الجمعة جاءوا بعلة وبسبب منع صوم يوم الجمعة فقالوا: لأنه يضعف الإنسان عن واجبات يوم الجمعة، فيقال لهم: فأنتم تجيزون صومه إذا صام معه غيره، وهذا يكون أشد ضعفاً؛ لأنه سيصوم يومين: يوم الخميس ويوم الجمعة، وسيصير في يوم الجمعة أشد ضعفاً مما قبله، إذاً: هذه علة غير صحيحة، والأولى والأقرب في ذلك -والله تعالى أعلم- أن إفراد يوم الجمعة، فيه -كما يقولون- غلو في اليوم، والدين الإسلامي بعيد عن الغلو في الزمان وفي المكان، إلا ما جاء النص صريحاً فيه، فقد جاء تكريم مكة، وجاء تكريم بعض الأماكن، وجاء تكريم بعض الأزمنة كبعض الساعات والأيام والشهور، كل ذلك جاء بنص من الله أو من رسوله صلى الله عليه وسلم، فالذين قالوا: لا ينبغي إفراده قالوا: حتى لا يغالي بعض الناس فيه فيصبح يوم الجمعة كيوم السبت عند اليهود، لأن اليهود حرموا على أنفسهم العمل يوم السبت، فامتحنهم الله بالحيتان كما قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف:163] ، فيوم السبت كانت تأتيهم الحيتان شرعاً على وجه الماء، تتلاعب معهم، وفي غير السبت تختفي لا يرونها، فلم يقدروا أن يصبروا على هذا، فاخذوا الشباك يوم الجمعة، وألقوها في الماء وتركوها، وذهبوا إلى بيوتهم يوم السبت، وقالوا: نحن لا نشتغل، فلما كان يوم الأحد ذهبوا وسحبوا الشباك بما علق بها من حيتان يوم السبت وأكلوها، ولما نهاهم الأحبار قالوا: نحن لا نعمل يوم السبت، بل نحن في البيوت، وما عملنا شيئاً، فكانت هذه فتنة عليهم، فالله سبحانه وتعالى انتقم منهم، وجعل منهم القردة والخنازير.
إذاً: الذين نهوا عن إفراد يوم الجمعة خافوا من الغلو الذي وقع فيه اليهود في يوم السبت، وهذا أقرب ما يمكن أن يعلل به، أما إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده فلم يكن مفرداً، إنما يكون كبقية الأيام صام في هذا اليوم كما صام في غيره، والذين ينهون عن إفراده بالصوم قالوا: لأنه يوم عيد، وقد جاءت الآثار عنه صلى الله عليه وسلم أن يوم الجمعة عيد، والذي يؤيد وجهة النظر الأولى: أن الله سبحانه وتعالى بين لنا: أن الإسلام لا رهبانية فيه، وأنه دين دنيا وآخرة، فهناك اليهود فرطوا في جانب الدين، وأفرطوا في جانب الدنيا، حتى احتالوا على ما حرم الله ليصلوا إليه كقضيتهم في يوم السبت مع الحيتان، بينما النصارى بالعكس، فرطوا في أمر الدنيا وبالغوا وغالوا في أمر الدين حتى تجاوزوا الحد، وكل منهما لم يفلح ولم يستطع أن يواصل السير بدينه إلى النهاية، وكانت من حكمة الله سبحانه أن ينقل الرسالة من أرض النبوات بالشام إلى الجزيرة العربية إلى العرب عن طريق إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ونشأ الرسول من ذرية إسماعيل، وجاء الإسلام وتلقته الأمة وكان من أمره ما كان، فهنا جاء التشريع الإسلامي مبعداً كل ما يمكن أن يؤدي إلى الغلو في أحد الجانبين، فمنع ما كان غلواً في أمر الدنيا، وما كان غلواً في أمر الدين، وأمر بالاعتدال قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، وسطاً في أعمالها، ووسطاً في أفكارها، ووسطاً في دعوتها، وقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، فهذه الأمة الوسط المعتدلة المستقيمة هي بعيدة عن الإفراط والتفريط في الدين وفي الدنيا، وأعظم تطبيق عملي لهذه الوسطية ما جاء في سورة الجمعة، في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9] ماذا يكون الحال؟ {فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] وليس المراد بالسعي الجري ولكن المراد تأهبوا، وخذوا العدة، وتهيئوا {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، ((فاسعوا إلى ذكر الله)) وهذا دين، ((ذروا البيع)) وهذه دنيا، فلكلٍ مكانه ولكلٍ وقته، {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] ، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10] فهل قال: اعتكفوا في المساجد، واجلسوا لذكر الله إلى آخر اليوم! وامتنعوا عن العمل؟ الجواب: لا، نحن قبل الصلاة كنا في الأسواق نبيع ونشتري، فلما جاء وقت الدين تركنا الدنيا وذهبنا إلى الصلاة، فإذا قضيت الصلاة وأدينا حق الله قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] ولم يقل: ارجعوا، أو عودوا إلى أسواقكم، ولكن قال: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَ